ضرب إيران... حين يصبح العقل هدفاً

13 يونيو 2025
+ الخط -

الضّربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران لم تكن مجرّد استعراض قوّة نارية، بل إعلاناً مدوّياً عن تحوّل استراتيجي في طبيعة الحروب المعاصرة. هذه الضربة لم تستهدف القواعد فحسب، بل تجاوزت البنية العسكرية لتضرب في عمق النظام الذهني الإيراني، مستهدفةً العقول التي تُخطّط وتدير وتحمي. قُتل قادة من الصف الأوّل في الحرس الثوري، واغتيل علماء نوويون بارزون، وضُربت مراكز يُفترض أنها محصّنة أمنيّاً واستخباراتيّاً. الرسالة لم تكن في حجم التدمير فحسب، بل في دقة الأهداف: نحن نعرف من أنتم، وأين أنتم، ومتى نصل إليكم.

إنها ليست مجرّد عملية عسكرية ناجحة، بل ضربة لعقيدة الردع ذاتها التي بنت عليها إيران عقوداً من التصعيد المتوازن. فالردع الذي يعتمد على امتلاك القوّة، وعلى التهديد المتبادل، وعلى تحالفات إقليمية جاهزة للردّ، سقط فجأة تحت وقع الهجوم الذي لم يُصد، ولم يُكشف، ولم يُواجه. الدفاعات الإيرانية ظلّت صامتة، والتحالفات لم تتحرّك، والرد تأخّر، وربما لن يأتي، ليس ضعفاً عسكرياً بالضرورة، بل لأن الخصم قد انتقل إلى ساحة لا تملك فيها إيران قواعد اللعبة.

لم تكن هذه ضربة على الأرض بقدر ما كانت اجتياحاً صامتاً للعقل الأمني الإيراني. سبقها على الأرجح اختراق استخباراتي هائل، وربما تعطيل سيبراني لأجهزة الرصد والتشويش والاتصالات. حين تُقصف العقول، فالمعركة تبدأ قبل أن تُطلق أوّل قذيفة، في الملفات المُخترقة، وفي الاجتماعات المُراقبة، وفي الرسائل المُعترضة. الحرب هنا لا تُخاض عبر الجغرافيا، بل عبر السيطرة على المعلومة، والتحكّم في الإشارة، وتوجيه الإرباك.

الردع لم يعُد يقوم على ما تملكه الدولة من قوة نارية، بل على ما تستطيع أن تُخفيه من مواقع حساسة ومفاتيح قيادة

المعركة التي اندلعت في سماء طهران كانت إعلاناً لنهاية الردع التقليدي. الردع لم يعُد يقوم على ما تملكه الدولة من قوّة نارية، بل على ما تستطيع أن تُخفيه من مواقع حسّاسة ومفاتيح قيادة. حين تصبح هذه المفاتيح مكشوفة، يتهاوى الردع، وتفقد الدولة القدرة على التهديد الجاد. إيران، رغم ترسانتها العسكرية الضخمة، بدت في تلك اللحظة دولة مكشوفة، ليس في أسلحتها، بل في رموزها ومراكز تفكيرها.

إسرائيل من جهتها لم تكن تسعى إلى تدمير المنشآت النووية وحدها، بل إلى شلّ رأس النظام الأمني والعلمي الإيراني. الأهداف لم تكن عشوائية، بل مدروسة بعناية لتضرب الروح المعنوية قبل البنية التحتية. حين تُستهدف عقول الأمة بدلاً من مستودعاتها، يكون العدو قد اختار نوعاً جديداً من الحرب، يُقصي الرد الفوري، ويستبق الضربة بضربة، ويحوّل مفهوم الدفاع إلى اجتهاد متأخر.

لقد دخلنا، بوضوح، زمن الحرب التي تُخاض ضدّ الدماغ قبل البنيان، والرمز قبل الهدف، والمعنى قبل المادة. هذه الضربة لم تقتل أفراداً فحسب، بل قتلت وهم الحصانة السيادية، وأعلنت أن المعركة المقبلة لن تكون بين جيوش على الأرض فحسب، بل بين من يملك القدرة على الرؤية قبل الحركة، وعلى الفهم قبل الضغط على الزناد.

الحرب على العقل لم تعد مجازاً، بل واقعاً تُبنى عليه العقائد العسكرية

وإذا وسّعنا زاوية النظر، فإنّ ما جرى ليس انعكاساً لأزمة إيرانية داخلية فحسب، بل عنوانٌ لتحوّل عالمي أعمق، تتغيّر فيه أسس القوة والنفوذ. لقد أصبحت الحروب الحديثة، في جوهرها، صراعاً على امتلاك "المعرفة السيادية" (sovereign knowledge)، وهي القدرة على التحكّم في المعلومة، وتحليلها، والتصرّف بها في الزمن المناسب. لم تعد الحرب تُقاس بعدد الصواريخ أو عدد الجنود، بل بسرعة الوصول إلى المعلومة وسرعة اتخاذ القرار بناءً عليها. الدول التي لا تملك هذه القدرة تُصبح عاجزة عن المبادرة، ومُجبرة على الردّ المتأخر.

إننا نعيش في زمن تشكُّل عالمي جديد، تُعاد فيه صياغة معاني الأمن القومي بعيداً عن مفهوم "الحدود". فما يُحدد أمن الدولة اليوم ليس من يدخل أراضيها فحسب، بل من يخترق شبكاتها، ومن يصل إلى بريد وزرائها، ومن يتتّبع حركات علمائها. وقد رأينا كيف أنّ الصراعات الكبرى (من تايوان إلى أوكرانيا) تدور اليوم حول السيطرة على الشرائح الإلكترونية، والمجالات السيبرانية، وسلاسل الإمداد الذكية. الحرب على العقل لم تعد مجازاً، بل واقعاً تُبنى عليه العقائد العسكرية.

في هذا السياق، يمكن قراءة الضربة الإسرائيلية باعتبارها نموذجاً مُبكّراً لحروب المستقبل، التي لا تستهدف الجغرافيا بل البنية الفوقية للنظام: الوعي، والإرادة، والنخبة المنتِجة للقرار والمعرفة. إنها لا تهدف إلى التدمير فحسب، بل إلى التشويش طويل الأمد، وزرع الشك داخل العدو تجاه ذاته ونخبه وقدرته على الحماية. ولهذا فهي ضربة تُربك أكثر مما تُفجّر، وتُفكّك أكثر مما تُسقط.

ضربة تُربك أكثر مما تُفجّر، وتُفكك أكثر مما تُسقط

هذه الحروب، في جوهرها، تطرح على العرب والمسلمين تحدياً وجودياً: هل لا نزال نُدير معاركنا بعقلية الماضي، بينما تُخاض ضدّنا حروب المستقبل؟ هل نُحصّن القواعد ونترك مراكز التفكير مكشوفة؟ هل نراهن على الردع بالقوّة، في حين أنّ الخصم انتقل إلى الردع بالمعرفة؟ إنّ من لا يملك أدوات الفهم لا يستطيع أن يدافع، ومن لا يحمي عقول مفكّريه وعلمائه، لا يستطيع أن يردع أحداً.

لقد تغيّرت طبيعة التهديد، وتحوّلت ساحات المعارك إلى فضاءات غير مرئية. وإذا لم يُدرك العالم العربي هذا التحوّل، فإنّ جدران الدول ستبقى قائمة، لكن عقلها سيكون مستباحاً.