صوت المرأة في أدب المواجهة الإيراني

12 يونيو 2025
+ الخط -

في تلك اللحظة التي تمسك فيها المرأة بالقلم في مجتمع يسعى لسلب صوتها، تتحوّل الكتابة من فعل إبداعي إلى انتفاضة صامتة، هكذا تنبض وتقول الرواية النسوية الإيرانية، ليس بوصفها مجرّد نصوص أدبية، بل شهادات حيّة على معركة وجودية تخوضها المرأة ضدّ منظومة متكاملة من القمع. إنها رحلة الكلمة المتمرّدة في أرض تعاقب الحلم وتجرّم الخيال.

عندما تصبح الكلمة سلاحاً

في زمن تتحوّل فيه الجدران إلى آذان، والنوافذ إلى عيون، تصبح الورقة البيضاء ساحة المعركة الأخيرة. هناك، في غرف مُغلقة بعيداً عن أعين الرقباء تنسج الكاتبات الإيرانيات عوالم موازية تتنفّس فيها الحرية. ليست الكتابة هنا ترفاً فكرياً أو نزهة جمالية، بل هي فعل وجودي يؤكّد أن المرأة موجودة، مفكّرة، قادرة على خلق عوالم بديلة عن عالم يصرّ على تهميشها.

تتجلى هذه المقاومة في تجربة الكاتبة آذار نفيسي التي تحدّت السلطة بحبر قلمها في كتابها "أن تقرأ لوليتا في طهران". فحين جمعت نفيسي طالباتها سرّاً لقراءة روايات محظورة مثل: "لوليتا" و"غاتسبي العظيم"، لم تكن تدرّس الأدب فحسب، بل كانت تزرع بذور الثورة في عقول جيل جديد. كانت تعلمهن أن يرين أنفسهن في مرآة النصوص، وأن يكتشفن أنّ عزلتهن ليست قدراً، بل نتاج نظام يمكن تفكيكه وإعادة بنائه.

الكلمة في مجتمع استبدادي ليست مجرّد حروف، بل قنبلة موقوتة تهدّد أركان السلطة

وحين ابتكرت شهرنوش بارسيبور في روايتها "نساء بلا رجال" حديقة سرّية تلجأ إليها نساء هاربات من واقعهن، لم تكن تنسج خيالاً بل كانت ترسم خريطة للخلاص. دفعت بارسيبور ثمن هذا الحلم سنوات من حياتها خلف القضبان، لتثبت أنّ الكلمة في مجتمع استبدادي ليست مجرّد حروف، بل قنبلة موقوتة تهدّد أركان السلطة.

الجسد المحاصر والروح المتمرّدة

يتحوّل الجسد الأنثوي في الأدب النسوي الإيراني إلى نصّ سياسي مكتوب بلغة القيود والتحرّر. فالثوب الأسود المفروض، والخطوات المحسوبة، والصوت المخفوض، كلّها علامات على محاولة تطويع الوجود الأنثوي وإخضاعه. لكن ما يحدث تحت هذا السطح المُظلم هو ثورة صامتة تتجلّى في الكتابة. تصف نفيسي في "أن تقرأ لوليتا في طهران" لحظة خلع الحجاب في غرفة مغلقة كطقس تحرّر يومي، حيث تستعيد المرأة سيادتها على جسدها، ولو للحظات. وفي الرواية نفسها تتحوّل جلسة قراءة سرّية إلى فضاء يتنفّس فيه الجسد المحاصر، كأنه يخرج من سجن مؤقتاً ليعود إليه مع انتهاء الدرس.

أما في رواية "نساء بلا رجال" لبارسيبور، فإنّ الجسد الأنثوي يتحوّل إلى ساحة للمعجزات والتحوّلات، حيث تتحوّل إحدى الشخصيات إلى شجرة هرباً من العنف الذكوري، في استعارة قوية عن رغبة المرأة في التحرّر من سطوة الجسد المقموع.

التوتّر بين الجسد المقيّد والروح المتمرّدة يشكّل جوهر الصراع في الرواية النسوية الإيرانية

هذا التوتّر بين الجسد المُقيّد والروح المتمرّدة يشكّل جوهر الصراع في الرواية النسوية الإيرانية. إنه صراع يتجاوز الأبعاد المادية ليصبح معركة من أجل الوجود ذاته، حيث تقاوم المرأة محاولات محوها وتنميطها وتحويلها إلى ظلّ باهت في مجتمع يحتكر الرجال فيه الضوء.

في متاهة الهُويّات المتصارعة

تعيش بطلات الرواية النسوية الإيرانية في متاهة من الهُويّات المتناقضة. فالمرأة المتعلّمة التي تحمل شهادات عليا تجد نفسها مُحاصرة في دور الزوجة والأم، مُطالبة بنسيان طموحاتها وأحلامها. والفتاة التي تتنفّس الشعر والفلسفة في الجامعة تعود إلى بيت تُقاس فيه قيمتها بمهارتها في إعداد الطعام وطاعة الزوج. هذا التمزّق الداخلي يتجلّى بوضوح في رواية "سأطفئ المصابيح" لزويا بيرزاد، حيث تعيش البطلة صراعاً يومياً بين دورها أما وزوجة أرمنية في مجتمع إيراني محافظ، وبين طموحاتها وأحلامها الشخصية. تقرّر البطلة في لحظة فارقة إطفاء الأنوار على عالمها القديم لتضيء شمعة في عالم جديد تصنعه بيديها، متحدّية بذلك كلّ التوقعات الاجتماعية المفروضة عليها.

تكشف هذه الروايات عن عمق المأساة التي تعيشها المرأة حين تُجبر على التنكّر لذاتها الحقيقية، وحين تصبح غريبة في جسدها وحياتها. لكنها في الوقت نفسه تكشف عن قوّة هائلة تكمن في قدرة المرأة على خلق مساحات داخلية للمقاومة، حتى حين تبدو كلّ الأبواب الخارجية موصدة.

لغة تتحايل على الرقيب

في مواجهة رقابة صارمة تلاحق الكلمة قبل أن تولد، ابتكرت الكاتبات الإيرانيات لغة جديدة تتسلّل من شقوق الجدران. إنها لغة تعتمد على المجاز والرمز، تقول ما لا يمكن قوله صراحة، وتوصل ما يستحيل البوح به.

في "نساء بلا رجال" لبارسيبور، الحديقة ليست مجرّد مكان للزهور بل هي الوطن الحر الذي تحلم به النساء. والطائر المحبوس في قصص نفيسي ليس مجرّد استعارة شعرية، بل هو صرخة احتجاج ضدّ القفص الاجتماعي. والنافذة المغلقة في رواية بيرزاد ليست مجرّد عنصر في المشهد، بل هي الحدود المفروضة بين عالم النساء الداخلي وعالم الحرية الخارجي.

حين تكتب المرأة في مجتمع قمعي، لا تحرّر نفسها فحسب، بل تفتح نافذة للحرية أمام كل امرأة تقرأ كلماتها

تلجأ الكاتبات أيضاً إلى تقنيات سردية مبتكّرة للالتفاف على المحظور. فالواقعية السحرية في "نساء بلا رجال" تسمح بخلق عوالم موازية تتحقّق فيها المستحيلات، والتناص مع الأدب العالمي في "أن تقرأ لوليتا في طهران"، يوفّر قناعاً واقياً للأفكار الجريئة، واللغة الشعرية المكثّفة في "سأطفئ المصابيح" تخفي في طياتها رسائل ثورية.

هذه الاستراتيجيات الأدبية ليست مجرّد حيل فنية بل هي أسلحة في معركة البقاء. إنها تعكس قدرة المرأة على المقاومة حتى في أحلك الظروف، وعلى تحويل القيود إلى جسور نحو الحرية.

الأدب فضاء للتحرّر الجمعي

حين تكتب المرأة في مجتمع قمعي، لا تحرّر نفسها فحسب، بل تفتح نافذة للحرية أمام كلّ امرأة تقرأ كلماتها، وتتحوّل الرواية من نصٍّ فردي إلى فعل جمعي، ومن تجربة شخصية إلى مشروع تحرّري.

في غرف مغلقة تتناقل النساء روايات نفيسي وبارسيبور وبيرزاد كما تتناقل الجواهر الثمينة. يقرأن في الخفاء قصصاً عن نساء مثلهن، يحلمن بالحرية ويدفعن ثمن أحلامهن. وفي كلّ مرّة تفتح امرأة كتاباً ممنوعاً مثل "نساء بلا رجال" تنضم إلى شبكة سرية من المقاومة تمتدّ عبر المدن والقرى. هكذا يتحوّل الأدب إلى ملاذ أخير في مجتمع يحاصر المرأة من كلّ جانب، إنه الفضاء الوحيد الذي يمكنها فيه أن تكون نفسها، أن تفكّر بحرية، أن تحلم من دون خوف. وحين تغلق الكتاب، تحمل معها بذور التغيير التي ستنبت يوماً ما، مهما طال الزمن.

نحو أفق إنساني أرحب

تتجاوز الرواية النسوية الإيرانية حدود الصراع المحلي لتطرح قضايا إنسانية عالمية. فهي ليست مجرّد صرخة احتجاج ضدّ نظام سياسي معيّن، بل هي تساؤل عميق حول علاقة الإنسان بالسلطة، وحقّ الفرد في تقرير مصيره، وقدرة الكلمة على مقاومة العنف. حين نقرأ "أن تقرأ لوليتا في طهران" اليوم، لا نقرأ فقط عن معاناة المرأة الإيرانية، بل نرى صورة مصغرة لكلّ صراع إنساني ضدّ الظلم والاستبداد. وحين نتأمل مصائر نساء بارسيبور في "نساء بلا رجال" نرى كيف يمكن للروح البشرية أن تنتفض حتى في أحلك الظروف. وحين نتابع رحلة بطلة رواية "سأطفئ المصابيح"، ندرك أنّ البحث عن الذات والحرية هو رحلة إنسانية عالمية. إنّ الكاتبات اللواتي يخاطرن بحريتهن من أجل الكلمة يذكرننا بأنّ الأدب ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية. إنهن يثبتن أن الإبداع قد يكون السلاح الأخير في معركة الإنسان ضدّ محاولات تشييئه وتدجينه.

وفي عالم تتصاعد فيه موجات التطرّف والعنف، تقدّم لنا هذه الروايات درساً ثميناً في قوّة المقاومة السلمية، وفي قدرة الكلمة على اختراق الجدران وتغيير الوعي. إنها تذكرنا بأنّ التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من تلك اللحظة التي نجرؤ فيها على تخيّل عالم مختلف. رغم كلّ محاولات الإسكات والتهميش، تظلّ الرواية النسوية الإيرانية شاهدة على أنّ الكلمة الحرّة لا تموت. قد تُسجن الكاتبة، قد تُنفى، قد تُمنع كتبها، لكن صوتها يظل يتردّد في قلوب وعقول من قرأوها. في كلّ مرّة تفتح فتاة إيرانية كتاباً ممنوعاً مثل "نساء بلا رجال"، في كلّ مرة تتسلّل رواية "أن تقرأ لوليتا في طهران" عبر الحدود، في كلّ مرة تُترجم "سأطفئ المصابيح" إلى لغة جديدة، تنتصر الكلمة على السجان، وتثبت أنّ الحبر أقوى من الرصاص.

هكذا تتحوّل الرواية النسوية الإيرانية من مجرّد نصوص أدبية إلى شهادة حيّة على قدرة الإنسان على المقاومة والحلم حتى في أحلك الظروف. إنها تذكرنا بأنّ الأدب، في جوهره، ليس هروباً من الواقع، بل هو مواجهة جريئة له، وإعادة تشكيل له، وحلم بتغييره. وفي عالم يزداد ظلمة، تظلّ هذه الروايات شموعاً مضيئة، تذكرنا بأنّ الليل مهما طال، لا بُدّ أن ينتهي، وأنّ الكلمة الحرة، مهما حوصرت، ستجد طريقها إلى القلوب والعقول.

لارا زياد المحمد
لارا زياد المحمد
كاتبة وناشطة سورية، حاصلة على ماجستير في اللغات السامية القديمة (العبرية والسريانية) من جامعة حلب 2011.