صفحات من يوميات لم تكتمل (6)

صفحات من يوميات لم تكتمل (6)

18 يوليو 2021
+ الخط -

الأحد 27/2/2000:

صحوت في الواحدة ظهراً على طرقات متواصلة على الباب، بعد أن استمرت الطرقات أطول مما توقعت، اضطررت للذهاب إلى الباب خوفاً من وقوع مصيبة. اتضح أنها الشغّالة، أم محمد. كنت قد نسيت أنها ستأتي اليوم. عاتبتني على التأخر في فتح الباب مع أنها تأخرت ساعتين عن موعدها، ربما لو كانت قد حضرت في الموعد لما كنت قد سمعت صوت الباب مهما فعلت. أحضرت معها هذه المرة ابنها الصغير المزعج الذي لا يكف عن الأسئلة والطلبات، ظللت أقلب في القنوات وأجيب على أسئلته التي لا تتوقف عن كل ما يراه على الشاشة.

بعد قليل اعتذرت لي عن التأخير لأنها تورطت في أزمة بسبب ابنها الكبير، الذي قام عسكري في المترو بالإمساك به وهو يشرب سيجارة، وطلب منه دفع الغرامة، ولأنه لم يكن يمتلك قيمة الغرامة، قام بتحرير محضر له، واضطرت لدفع رشوة للخروج من الأزمة، وبعد أن أخرجت ابنها من الورطة ضربته علقة محترمة لأنها اكتشفت أنه يدخن، "واحنا مش لاقيين ناكل". عرفت منها لأول مرة أنها تسكن في منطقة كوتسيكا التي نمر عليها في طريقنا إلى حلوان، لم أزرها من قبل، فكرت في أن أزورها لأنه سيكون من اللطيف أن تسكن شخصية ما من شخصيات أفلامي القادمة في (كوتسيكا) التي يبدو من حديث أم محمد عنها أنها مختلفة تماماً عن اسمها. المهم الآن أن يكون هناك أفلام حالية لكي تكون هناك أفلام قادمة. (21)

أكلت من أكل أم محمد الجميل بعد أن نزلت. نَفَسها في الأكل بديع ومخلصة في عملها ويدها ليست طويلة مثل "أم محمدات" أخريات. كان بودي أن أساعدها في تعويض ما دفعته في الرشوة والغرامة، لكن العين بصيرة ولعلي أعوضها حين لا تكون اليد في المستقبل القريب قصيرة. أكيد ستظن فيّ البخل وانعدام الإحساس لأنني لم أقم بزيادة أجرتها في ظروف كهذه، لكنها لن تصدقني لو حكيت لها عن ظروفي المنيّلة، هي بالتأكيد تظن أنني يا ما هنا يا ما هناك، يكفي "الديكودر" الذي تراه طول الوقت مفتوحاً على قنوات أجنبية. لا تعرف أنني لو كنت أجيد الطبخ لما احتجت إليها أبداً.

بعد الأكل والشاي، استمررت في حالة التوهان حتى الخامسة والنصف مساءً رغم أنني قررت في اليوم السابق أنني سأبدأ الإنجاز والعمل بهمة، وعزمت على أن أقوم بكتابة سيناريو جديد اتفقت عليه شفهياً مع ناهد فريد شوقي التي أحبت معالجة الفيلم حين قرأتها وتحمست لها جداً، لكنني كلما هممت بالكتابة أخذت أتذكر تجربتي الصعبة في السنتين الماضيتين مع سيناريو (سيد العاطفي) وسألت نفسي عن جدوى الاستمرار دون تعاقد في ظروف بائسة كهذه. ليس أمامي إلا الاستمرار لكن ربما ليس اليوم. (22)

علمتني الأيام أن أكون حذراً في سماع آراء أبناء الجيل الواحد عن بعضهم

كلمني عم صلاح (23) ليطلب مني أن أحرص على مشاهدة مسلسله (...) الذي بدأ عرضه بالأمس، والذي ساعدته في تصليح بعض حلقاته مقابل ألف جنيه فقط، هناك حلقة أكاد أكون أعدت كتابتها. لم أغضب بسبب المقابل القليل الذي حصلت عليه، لأن ما تعلمته من تلك التجربة أكبر وأهم، قال لي عم صلاح إنه سيسافر الأسبوع القادم إلى الإسكندرية وسألني هل سآتي معه؟ نسيت كل كلامي عن أهمية تحقيق الإنجاز وقلت له إنني سأذهب معه، لا أدري لماذا قلت ذلك، ربما لأنني كنت محبطاً من لقائي مع أشرف عبد الباقي ومن زيارتي للاستديو في تصوير هنيدي، شعرت أن علاقتي بالسينما ستكون أصعب مما تخيلت، مع أنني كنت أدرك مدى صعوبتها.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31

بلال فضل

كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.

اتصل بي أشرف فايق معاتباً على تأجيل موعدي معه بالأمس، اعتذرت له ونزلت لمقابلته، بدا لي أنه بني آدم طيب، أعطيته نسخة من السيناريو، حدثني طويلا عن تغير محمد هنيدي وكيف أنه نسي أفضاله عليه، وكيف كان هنيدي يتردد على بيتهم لسنوات ويقيم فيه بالساعات، وكيف عرّفه أشرف على السيد راضي في مسرحية (الدكتور زعتر) فاختاره السيد راضي وأطلقت المسرحية لموهبة هنيدي العنان، وكيف عرّفه على شريف عرفة في فيلم (المنسي) حيث لعب أول دور عرفه منه الناس، ثم دار الزمن ليطلب من هنيدي 5 تذاكر في مسرحيته الجديدة (عفروتو) وفوجئ بأن هنيدي يطلب منه خفضها إلى 4 تذاكر، وكيف يرفض هنيدي العمل معه الآن، وكيف تجاهل هنيدي الإشارة إلى دوره إلا بعد أن عاتبه فذكره في حديث تلفزيوني على استحياء. (24)

لا أدري نسبة الحقيقة من المبالغة فيما حكاه أشرف، خصوصاً مع شعوره بالمرارة لأن أبناء جيله أخذوا خطوات في المشوار وظل هو محلك سر، لكن في الوقت نفسه ذكرني ما قاله بما حكاه لي عمنا شريف كمال نسيب صلاح السعدني (25) عن غضبه لأن عادل إمام لم يتذكر وقوفه إلى جواره في البدايات، قلت لنفسي ربما كان هنيدي يسير بالفعل على درب النجاح الذي سار عليه عادل إمام، ثم تذكرت ما سمعته نقلاً عن صديق اتهمني بالنذالة لأنني لم أقم بنشر موضوع ردئ الصياغة قام بتسليمه للنشر في (الدستور) مع أنني لم أكن صاحب قرار النشر، من يدري ربما كان أشرف غاضباً من هنيدي لأنه لم يعجب بمشروع قدمه له، علمتني الأيام أن أكون حذراً في سماع آراء أبناء الجيل الواحد عن بعضهم.

...

هوامش على اليوميات:

-21: قمت بالفعل بزيارة (كوتسيكا) بعدها بفترة، حين تذكرت أن زميل دراسة لي يسكن هناك، وقد ظن في البداية أنني أزوره لوجه الله والمودة القديمة، لكنني صارحته بالحقيقة فامتعض وقال إن أي تصوير في المنطقة سيساهم في تشويه سمعتها التي يحسنها الاسم الأجنبي، وأذكر أنني حين عرضت على منتج قصة تدور أحداثها هناك، كان يسمع عن اسمها لأول مرة، لأنه لا يركب المترو، وظن أنني أختلق الاسم، وحين أقسمت له إنه اسم لمنطقة من لحم ودم وبشر وشوارع، تساءل عما إذا كانت الرقابة ستسمح بالاسم ولن تعتبره منافياً للآداب العامة.

-22: المعالجة التي قرأتها ناهد فريد شوقي وأعجبتها كانت تحمل عنوان (صايع بحر)، وكنت كلما أعطيتها لصديق كي يقرأها فيعطيني رأياً إيجابياً ثم يقول لي إن تنفيذها مستحيل رقابياً وإنتاجياً، وأذكر أنني أرسلتها مع صديق لكي يقرأها الأستاذ داوود عبد السيد الذي كنت أحلم بالعمل معه، ولم أعرف هل قام بتسليمها له أم لا، الوحيدة التي وعدتني أن تقاتل من أجل المشروع لو كتبته كانت ناهد فريد شوقي، لكنها بعد ذلك دخلت في سلسلة أزمات بسبب نزاع قضائي خاضته مع الموزع السينمائي مدحت الشريف، وتوقفت بسببه عن الإنتاج السينمائي لفترة طويلة، وبعد ما كتبته هنا بأشهر، تحمست للعمل وقررت أن أبدأ في كتابة السيناريو دون أن أتعاقد مع منتج عليه، ووجد طريقه للنور بعدها بعامين مع المنتج حسين القلا، ثم بعدها مع المنتجة إسعاد يونس والمخرج علي رجب عليه ألف رحمة ونور.

حين أقسمت له إنه اسم لمنطقة من لحم ودم وبشر وشوارع، تساءل عما إذا كانت الرقابة ستسمح بالاسم ولن تعتبره منافياً للآداب العامة

-23: الفنان الكبير صلاح السعدني والذي تعودت أن أصفه منذ عرفته بأنه "أبي الذي لم تلده ستّي"، وقد لعب في حياتي دوراً لا أنساه في الفترة التي أعقبت إغلاق صحيفة (الدستور) وتنقلي بين الصحف والمجلات، وشجعني بقوة على كتابة السيناريو، خصوصاً بعد أن عرض علي بعض المسلسلات التي يستعد لتصويرها وأبديت له آراء وملاحظات أعجبته، فطلب مني أن أقوم بـ"تصليح" مسلسل كان معجباً بفكرته وشخصياته، لكنه لم يكن معجباً بكتابته، وحين طلب من الكاتب أن يقوم بتعديلات على المسلسل قال له إنه تلقى أجره عن المسلسل وليس مستعداً لعمل التعديلات، وأن عليه أن يقوم بعملها بنفسه أو مع أي كاتب آخر إذا أراد لأنه بدأ في كتابة مسلسل جديد، وحين عرض عم صلاح عليّ الأمر وجدت فيه فرصة ذهبية للتعلم من أخطاء الآخرين، ومما ساعدني أكثر على التعلم في تلك الفترة أنني كنت محاطاً بعدد من المخرجين كتاب السيناريو الكبار من أصدقاء عم صلاح والذين سعدت بصداقتهم والتتلمذ على أيديهم، أسماء مثل أسامة أنور عكاشة ومحسن زايد وإبراهيم الصحن وإسماعيل عبد الحافظ ومحمد صفاء عامر وعصام الجمبلاطي رحمهم الله جميعاً وأمد في عمر عم صلاح.

-24: أشرف هو ابن المخرج السينمائي والتلفزيوني فايق إسماعيل وعمه الممثل محيي إسماعيل، وكان والده قد بدأ في السينما ككاتب سيناريو ثم كمخرج بأحلام عريضة لم تسفر عن إنجازات مهمة، وبعدها دخل إلى مجال الإخراج التلفزيوني وبدأ بأحلام كبيرة ثم انتهى بإخراج أجزاء مسلسل (القضاء في الإسلام) الذي كتبت عنه ساخراً بأنه يجب أن يتم تسميته مسلسل (القضاء على الإسلام) من فرط الملل الذي يصيب به المشاهدين، وإن كنت قد وجدت مؤخراً من يترحم على أيامه ويشكر فيه، ومن يدري ربما أكون مخطئاً في تقييمي له، ويكون رأيي فيه سابقاً من باب طيش ونزق الشباب.

-25: كان شريف كمال أو "عمنا" كما كنت أناديه، زميل دفعة لعادل إمام في كلية الزراعة بجامعة القاهرة، وقد تعرف عليه صلاح السعدني حين دخل الكلية بعده وبعد عادل بسنتين، وأصبح صديقاً لهما، وتعرف على السيدة منى أخت شريف وأحبها وتزوجها، وهي أم ولديه أحمد وميريت ورفيقة دربه، ومع أن صداقة عادل وصلاح لم تنقطع ولم تتأثر أبداً، إلا أن علاقة شريف كمال وعادل إمام فترت بحكم عمل شريف كمال في مجال غير الفن، وإن كان قد عمل مساعداً في الإنتاج في عدد من المشروعات التي عمل فيها صلاح، واستعان به صلاح في إنشاء شركة الشمس للإنتاج الفني التي كان يفترض أن تنتج أول مسلسل تلفزيوني من تأليفي وإخراج الأستاذ إبراهيم الصحن عن رواية للكاتب التركي الكبير عزيز نيسين، لكن العمل لسوء حظي لم ير النور.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.