صفاء النيّات: بين الحقيقة والوهم

03 مارس 2025
+ الخط -

بعد هذا القسط من العمر الذي عشناه، سواء امتلأ بالمجد والفرح أو حمل في طياته التعب والإخفاق والابتلاءات، نمضي مجدداً في رحاب تعاليم القرآن الكريم في هذا الشهر المبارك، إذ تسهر أرواحنا كل ليلة مع آياته وتحاول أن تسمو فوق عالم يموج بالضجر والاضطراب، عالم تكثر فيه التقلبات وتندر فيه معاني الوفاء. في هذه الليالي، نذكّر بعضنا البعض بنداءات أرواحنا المبعثرة، تلك التي ألقت بها رياح الخذلان بعيداً عن مداركنا حتى غابت عن أبصارنا ووجداننا، لعلنا نبدأ في البحث عنها من جديد، أو على الأقل نلتفت إليها هنا أو هناك ونحن نرسم هذه الكلمات بأقلام مثقلة بالتأمل والتساؤل. حديثنا في هذه الفرصة الرمضانية عن أسرار النيّات وعالم السرائر، فما هي النيّة؟

النيّات ليست مجرد أفكار عابرة، بل هي القوى الخفية التي تشكّل مصائرنا، وتقودنا إلى الخير أو تهوي بنا في المجهول، قد نظنّ أن نياتنا بريئة، هادئة، مظلومة، ولكن هل تأملنا يوماً في مصدر السهام التي أصابتنا؟ هل تساءلنا عن دورنا، ولو كان غير مباشر، في تجلّي هذه الأقدار؟ إنّ ما يظهر على سطح عقولنا ليس بالضرورة هو الحقيقة، بل قد يكون الصورة التي نودّ أن نراها فقط، تلك التي تعفينا من مسؤولية النظر بعمق في دواخلنا. كلنا بطريقة أو بأخرى، حملنا سكاكين غير مرئية، وخضنا معارك نفسية، تأثرنا وأثّرنا، غضبنا وربما مكَرنا، لكننا نميل إلى نسيان ذلك والاحتفاظ فقط بما يخدم سردياتنا الذاتية، ومع ذلك فإن الله لا ينسى.

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القيامة: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ)، هاتان الآيتان الكريمتان تلخّصان أحد أهم حقائق النفس البشرية؛ فمهما صاغ الإنسان من أعذار ليبرر مواقفه يظل في داخله شاهداً على حقيقة نواياه، فكثيراً ما يسعى الإنسان في خداع الآخرين بمظهره، وقد يخدع نفسه بالتماس التبريرات لكنه في لحظة صفاء، حين يتجرّد من مؤثرات الخارج يدرك تماماً ما إذا كانت نيّته صافية أم مشوبة بأهواء خفية، وهذا ما أكده الدكتور محمد الغزالي حين قال: "الإنسان قاضٍ عادل على نفسه، لكنه نادراً ما يعقد جلسة محاكمةٍ عادلة لذاته"، فالخطوة الأولى نحو صفاء النيّة هي الجرأة على مواجهة النفس، ليس فقط في لحظات الانفعال العاطفي، إنما في لحظات التأمّل العميق، إذ قد يدرك المرء أن النيّة لم تكن يوماً مجرد شعور داخلي، لكنها التزام فكري وأخلاقي يتجسد في سلوك الإنسان، ويُختبر في مواطن الفعل وليس في لحظات الادّعاء، فالله سبحانه لا يجازي الأماني، بل يجازي السعي، والفارق بين الحلم والوهم هو أن الأول تصاحبه خطوات، بينما الثاني يظل سراباً في الأذهان!

وهذا المعنى يتسق تماماً مع قوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)، التي توضح أنّ الإنسان قد ينكر شيئاً في العلن، لكنه في قرارة نفسه مؤمن به. وهكذا تختزل الآية في كلمات قليلة جدليّة الوعي والإنكار، والصدق والتبرير، والبصيرة والعمى الداخليّ، فهي إشعار قرآني واضح بأن الإنسان لا يحتاج إلى من يكشف له حقيقته، فهو شاهد على نفسه مهما ادّعى غير ذلك.

النّيات ليست مجرد أفكار عابرة، بل هي القوى الخفية التي تشكّل مصائرنا وتقودنا إلى الخير أو تهوي بنا في المجهول

وهذا هو جوهر التأمل الحقيقي، أن يجلس أحدنا في مواجهة ذاته ليكتشف أن أفكاره ليست دائماً كما يتصوّرها، ولهذا فإن دوافع الإنسان ليست طيبةً دائماً، بل هي مزيج من المؤثرات الداخلية والخارجية، نيّاتنا وغضبنا ومكائدنا، كلّ ذلك يتجسد في واقعنا على شكل نتائج بعضها محمّل بالنجاح وبعضها الآخر مرير. هذا هو السبب؛ فالفشل الذي يعيشه المسلم المعاصر في حياته المادية والروحية يعود إلى نيّاته المتقلبة التي تتحكم فيها الحوافز النفسية والمكتسبة، وإنّ صفاء النيّة هو تجربة روحية وفكرية متكاملة، لا تتحقق إلا بالإدراك العميق والحدس النقي والاستماع للحقائق بوعي صافٍ، كما أنها التزام داخلي يتجسد في الأفعال وفي البحث المستمر والاجتهاد، وفي إدراك قوانين الحياة واتباع سنن الكون كما أرادها الله.

وهنا يتجلى السؤال: هل تأمُّلنا للقرآن في هذا الشهر الكريم نابعٌ عن إرادة حقيقية للوصول إلى التنوير وصفاء الروح والعقل، أم أنه مجرد انفعال عاطفي لحظي أو تأثير جماعي اعتدنا عليه دون وعي؟! هل هي نيّة خالصة أم أنها مشوبة بدوافع أخرى في عمقها، لتصبح في النهاية أمراً لا يختلف عن الغرائز البشرية التي تحركنا في الحياة اليومية!

لا نقصد أنّ التأمل في آيات الله لن يجلب الخير والنجاح، غير أنه ينبغي البحث عن كل شيء في مكانه الصحيح، فالعابد في المسجد الذي يظن أن مجرد الدعاء سيبدّل حاله دون سعي هو كمن يريد الحصاد دون أن يزرع، وكمن ينتظر الشفاء دون دواء، هناك فارق بين لحظات الروح الخالصة بين يدي الله، وبين سنة الله في الكون التي تقوم على الأسباب والعمل والسعي، وقد بيّن النبي محمد، صلى الله عليه وسلّم، هذه الفلسفة بوضوح حين قال: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، فادِّعاء النيّة الصالحة ليس كافياً هنا، بل يجب أن يكون السعي في اتجاه تلك النيّة واضحاً ومستقيماً.

إن الحقيقة التي ينبغي أن ندركها دائماً، هي أن الكون ليس ساذجاً سذاجةَ الكثير من البشر في تفسيرهم للأحداث، إنما هو منظومة دقيقة تسير وفق قوانين ثابتة، أشبه بحكومة كونية لا تتبدل أقدارها وفق مشاعرنا المتقلّبة، ولا تخضع لرغباتنا دون عمل أو استحقاق، فالنجاح في أي مجالٍ ماديّ أو روحيّ لا يتحقق بالدعاء فحسب، بل بالعمل المتقن والبعد عن الاتّكالية، بالنيّة الصافية التي تدفع إلى الفعل بالاستعداد لما نطلبه، وصحيح أنّ الدعاء نور، لكنّه يحتاج إلى وقود العمل حتى يشتعل أثره في الحياة.

وأخيراً، تظل النيّة هي البوصلة التي تحدّد وجهتنا، لكن علينا أن نحرص على أن تكون هذه البوصلة لها أثر في الواقع، وليست مجرد سهم يطلقه الهوى كيف ما شاء. في شهر رمضان، حيث تصفو الأرواح، من الجميل أن نغتنم هذه الفرصة في مراجعة نيّاتنا بدل ادّعاء طهارتها، وفي النهاية، يومَ تُبلى السرائِرُ هناكَ، لن يظلّ إلّا ما كان صادقاً حقاً.

ريهام أزضوض
ريهام أزضوض
كاتبة وباحثة في قضايا النهضة، خريجة من جامعة أسكودار في قسم الاعلام الجديد والاتصال في اسطنبول بتركيا، درَستْ القانون في جامعة محمد الأول في المغرب، تقنية وخبيرة في التجميل الطبي للعناية بالبشرة والشعر. تعرف نفسها، بالقول: "اصبر ثم اصبر حتى يتغنى الصبر بك".