صراع السرديات بين المقاومة والاحتلال
تقول المحامية والأكاديمية الإيطالية، فرانشيسكا ألبانيز، التي انتُخبت في مايو/ أيار 2022 مقرّرةً خاصةً للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية: "حق الفلسطينيين في المقاومة متأصل في حقهم في الوجود باعتبارهم شعبًا".
في خضم الحرب المستمرّة على قطاع غزّة، يظهر صراع السرديات الثقافية والسياسية بوضوح، حيث تبرز سردية المقاومة الفلسطينية بمواجهة سردية الاحتلال الصهيوني. وهذا التباين بين السرديات ليس مجرّد اختلاف في وجهات النظر، بل هو تجسيد لصراع طويل الأمد بين قوى الاستعمار والهيمنة من جهة، والشعوب التي تكافح للحرية والكرامة والعدالة من جهة أخرى، وهي أيضًا (السرديات) ليست مجرّد أدوات لتحليل الأحداث، بل محرّكات رئيسية تشكّل تصوّراتنا حول القيم الإنسانية، وتوجّهات القوى الكبرى، والقوانين الدولية.
في ظلّ هذا الصراع، تبرز المقاومة قيمةً مركزيةً تلتف حولها مختلف الفئات الشعبية، فالمقاومة الفلسطينية في هذه السياقات ليست فقط ردّ فعلٍ على الاعتداءات الإسرائيلية، بل هي مسعى لتحقيق الاستقلال والحرية بعد سنوات طويلة من الاحتلال والاضطهاد والظلم، وهذا ينعكس في تضحيات الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه وعرضه، بما في ذلك الأطفال والنساء، الذين يقفون في مواجهة آلة الحرب الوحشية الإسرائيلية.
يجب العمل على تغيير السرديات الثقافية التي قامت على أسس الاستعمار والهيمنة
المقاومة في هذا السياق تعني أيضًا رفض الهيمنة الثقافية والسياسية التي تحاول القوى الإمبريالية الغربية فرضها على المنطقة، إنه صراع ضدّ السرديات الاستعمارية التي تسعى لتبرير الاحتلال وتقديمه أمرًا طبيعيًا، بل وترويجًا فكرة التفوّق الثقافي والإنساني للغرب على حساب الشعوب الأخرى. فالمقاومة في غزة، كما يتم تجسيدها في الأدبيات المعاصرة، تُعدّ رمزًا للرفض والمقاومة ضدّ هذه الهيمنة.
على الجانب الآخر، تُقدّم سردية الاحتلال الإسرائيلي نفسها باعتبارها معركة من أجل الأمن والسيطرة على الأرض، لكن هذه السردية تغفل جانبًا أساسيًا من حقيقة الصراع؛ أنّ الاحتلال أصل المأساة، وأنه يمثل انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية وحقوق الإنسان...، في هذا الإطار يُبرَّر القتل والدمار بوصفهما ضروريين لأمن الدولة، فيما يُغَضُّ النظر عن المعاناة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني نتيجة لاستمرار الاحتلال.
علاوة على ذلك، تواجه سردية الاحتلال تحديًا حقيقيًا في ظلّ الانكشاف الدولي المُتزايد حول الممارسات الإسرائيلية في غزّة. فالتصوير الإعلامي المُتزايد للعنف والدمار، وانتقادات الأكاديميين والصحافيين الغربيين، الذين بدأوا يطرحون تساؤلات عن القيم الغربية، جعلا هذه السردية أقلّ مصداقية على الصعيد العالمي.
أصبحت غزّة رمزًا للمقاومة ضدّ الاحتلال، ليس فقط على مستوى فلسطين بل على مستوى العالم كلّه
صراع السرديات بين المقاومة والاحتلال يتجاوز الساحة العسكرية والسياسية ليغزو أيضًا الساحات الثقافية والفكرية. ففي الوقت الذي يعاني فيه العديد من المثقفين الغربيين من أزمة ضمير أخلاقي في مواجهة دعم حكوماتهم للعدوان الإسرائيلي، يبدأ الحديث عن الأيديولوجيات الغربية بشكل أكثر شجاعة وصدقًا، مثل الأكاديمي الإيطالي أليساندرو أورسيني وغيره من المفكرين الذين يطرحون تساؤلات عن القيم الغربية، ويدينون العنصرية التي تحرّك السياسة الغربية تجاه الشعوب المستعمَرة.
هذه التساؤلات لا تقتصر فقط على الأكاديميين، بل تمتدّ لتشمل الطلاب والشباب الذين بدأوا يشكّكون في الروايات الرسمية حول الاحتلال، ويطالبون بمحاسبة حقيقية للمسؤولين عمّا يحدث في غزّة. هذه الانتقادات تعكس رغبة في إعادة النظر في قيَم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي كانت تُعتبر ثابتة، ولكنها في الواقع لم تترجم إلى ممارساتٍ ملموسة تجاه قضايا الاحتلال.
اليوم، أصبحت غزّة رمزًا للمقاومة ضدّ الاحتلال، ليس فقط على مستوى فلسطين، بل على مستوى العالم كلّه، فقد تجاوزت غزّة حدود الصراع الإقليمي لتصبح جزءًا من معركة كبرى ضدّ النظام العالمي الحالي الذي يتمسّك بقيم الاستعمار والتفوّق الثقافي، حيث أصبحت غزّة في هذا السياق لا تمثّل مجرّد مواجهة بين قوّتين عسكريتين، بل هي اختبار لقدرة الإنسانية على مواجهة أنظمة القمع والتمييز.
المقاومة ليست فقط مواجهة عسكرية، بل هي أيضًا تصحيح لسردية التاريخ واستعادة للإنسانية
في هذه اللحظة التاريخية، يبدو أنّ المقاومة في غزّة قد ألهمت العديد من الأشخاص في أنحاء العالم للوقوف في وجه القوى الاستعمارية والإمبريالية، مستندين إلى فكرة أنّ الحق في الحرية والكرامة ليس محصورًا في منطقة أو شعب بعينه، بل هو حقّ عالمي يتقاسمه كلّ من يسعى للتحرّر من الأنظمة القمعية.
إنّ النزاع بين السرديات الثقافية حول المقاومة والاحتلال ليس مجرّد صراع على الحقيقة، بل هو صراع على المستقبل، الذي يعتمد على كيفية رؤية الشعوب لقيم العدالة، والتضامن، والكرامة الإنسانية، بينما تستمر آلة الحرب الإسرائيلية في دكّ غزّة، تستمر المقاومة الفلسطينية في إظهار أنّ القيم الإنسانية لا يمكن اختزالها في سرديات أحادية تروّج لها القوى الكبرى.
إنّ مقاومة غزّة، كما هو الحال في العديد من التجارب التحرّرية العالمية، تتجاوز مجرّد الوقوف في وجه الاحتلال، إنها دعوة إلى تغيير السرديات الثقافية التي قامت على أسس الاستعمار والهيمنة، ومحاولة إعادة صياغة مفهوم العدالة في عالم يعاني من التفاوتات الاقتصادية والسياسية والثقافية.
وفي النهاية، تبقى غزّة مثالًا حيًا على أنّ المقاومة ليست فقط مواجهة عسكرية، بل هي أيضًا تصحيح لسردية التاريخ واستعادة للإنسانية.