صباح 25 يناير 2011

صباح 25 يناير 2011

15 فبراير 2021
+ الخط -

الثلاثاء 25 يناير 2011.. كان صباحا وطنيا فريدا، تهيأت فيه مصر لفجر جديد، وتهيأت أنا مثل آلاف من المصريين ليوم قد تتبعه أيام يطول مداها، فكعادة المظاهرات، دائما ما يكون احتمال الاعتقال واردا، فأفرغت جيوبي إلا من إثبات الشخصية وقليل من النقود.

انطلقت بسيارتي مع إسلام لطفي وسامح البرقي من مدينة 6 أكتوبر حيث نعيش، إلى منطقة المهندسين حيث تركنا السيارة بشارع جانبي، وفي الطريق التقينا صدفة بالصديق (و.خ) من الاشتراكيين الثوريين، واستقلينا معا "توكتوك" متجهين لنقطة البدء.

كانت أعداد المتفاعلين مع دعوات التظاهر على صفحة "كلنا خالد سعيد"، التي كان يديرها عبد الرحمن منصور ووائل غنيم وأطلقت الدعوة الأولى للتظاهر في 25 يناير، قد تجاوزت 200 ألف حتى آخر مرة زرتها قبل المظاهرة، وأعداد من الشباب والفتيات الذين أعلنوا مشاركتهم ودعوا للتظاهر رغم كل المخاوف من بطش الأمن بصورة لم أرها من قبل.

كان شباب من الحركات السياسية (6 أبريل والاشتراكيين الثوريين وشباب من أجل العدالة والحرية وشباب من الإخوان وشباب من حملة دعم البرادعي..) قد اتفقوا أن يكون قلب شارع ناهيا، الحي الشعبي المتاخم للمهندسين والمزدحم بالسكان، نقطة انطلاق سرية لمظاهرة الحركات وتبدأ قبل الموعد المعلن بنصف ساعة، على أمل أن يكون ذلك ضمانة لتحظى بفرصة للتحرك وتجمع أعداد كبرى قبل قمع الشرطة لها، وللالتحام بسكان المنطقة ودعوتهم للمشاركة، كما أن شارع ناهيا قريب نسبيا من ميدان مصطفى محمود الذي سيحتشد فيه أعداد ممن استجابوا لدعوة التظاهر المعلنة على مواقع التواصل.

كانت الاشتباكات على كوبري الجلاء وقصر النيل من جهة التحرير هي أشد ما واجهنا خلال مسيرتنا، وكان تعليقنا أن إسماعيل الشاعر -مدير أمن القاهرة حينها- قد قرر استعراض قوته علينا

وفي الموعد المتفق عليه، عند الواحدة والنصف تقريبا بتوقيت القاهرة العامرة، بدأت المظاهرة التي استهلها زياد العليمي بكلمة ثم علا الهتاف، وأخذت المسيرة طريقها، في البدء دخلت قليلا في عمق شارع ناهيا ثم اتجهت نحو كوبري ناهيا الذي يصب في شارع جامعة الدول العربية، وتزايدت الأعداد وتنوعت فئات المشاركين لدرجة أن قوات الأمن لم تفلح في التصدي لنا ومنع صعودنا الكوبري.

حين خرجنا من ناهيا كنت أنظر لمن حولي في المظاهرة، وكأني أرى خريطة أهل مصر بتنوعهم حاضرة فيها وليس فقط مجموعة الشباب المسيسين الذين بدأوها، من كان بجانبي مباشرة كان شابا خرج من ورشة عمله بثيابه الملونة ببقع الدهان، وآخر يلبس شبشبه المقطوع.

في أغلب مظاهراتنا طوال السنوات السابقة كنا عادة نتجمع عند معلم رئيسي بالبلد (دار القضاء أو سلالم نقابة الصحفيين أو ميدان التحرير..)، باستثناء مرات قليلة تحركنا في حارة أو قرية، كنا في الغالب نرى من نعرفهم ويشبهوننا، لكن صورة اليوم كانت مختلفة.

استمر هدير الهتاف واندفاع سيل البشر حتى أوقفنا أول "كردون أمني" بعد نزولنا من الكوبري في شارع جامعة الدول العربية، وحاول البعض التفاهم مع الضباط لتركنا نمر دون عنف، وهم يرفضون، واستمر التدافع حتى استطاع مجاهد شرارة أن يمر صانعا ثغرة في جدار الكردون وتبعه آخرون فلم يعد بإمكان الحاجز الأمني أن يتماسك وعبرنا..

وعند ميدان مصطفى محمود عرفت أن قوات الأمن قد بدأت مبكرا في اعتقال من تشك بهم من الموجودين في الشارع أو المحلات القريبة، وأن بعض أصدقائنا كانوا في مقهى سيلانترو القريب من مسجد مصطفى محمود تم اعتقالهم من داخل المقهى وهم يكتبون لوحات للمظاهرة، وظل الكر والفر بينهم وبين قوات الأمن حتى التحمنا بهم وتدفقت الأعداد في شارع البطل أحمد بن عبد العزيز، والناس يقفون في شرفات منازلهم بعضهم يهتف وبعضهم يصفق ويلقي لنا زجاجات مياه، وسيدة مسنة جلبت أعلام مصر من داخل الشقة وألقتها إلينا وهي تهتف بالدعاء "ربنا ينصركم"، إنها بالفعل معركة ميلاد! كنا نهتف "انزلوا من بيوتكم.. مصر دي بلدكم" وننادي "انزل .. انزل".

عندما اجتزنا قوات الأمن عند "المصل واللقاح" قلت لـ(م.ع) لم أر هذه الحشود في هذا المسار الطويل من قبل.. الآن يمكن القول إنها الثورة!".

الصورة
25 يناير

خشي صديقي (م.ع) أن يصعد المتظاهرون في مقدمة المظاهرة كوبري 6 أكتوبر ويصبح مصيدة لنا، فقال لي: اجرِ لمقدمة المسيرة وقل لمحمد عباس ما تطلعوش كوبري أكتوبر.

اجتزنا قرابة الخمسة حواجز أمنية في طريقنا للتحرير، وفي كل خطوة نتقدمها يزداد العدد ويزداد الشباب ثباتا وثقة بأننا ندق باب التغيير، وحين نقترب من كل حاجز ننطلق مهرولين نهتف بصوت مدوٍ "حرية.. حرية.. حرية" وكأننا نستمد القوة والثبات من الكلمة، وكأنها تضخ فينا معنى الحياة التي تهون لأجلها الحياة، كنت أحاول الحديث مع بعض الضباط، وأقول لهم: انت هتضرب إخواتك ليه؟ هو انت مش شارب المرّ في البلد دي زينا؟؟ هو انت حالك زي حال البهوات الكبار اللي بيدوك الأوامر؟؟! كانت تعلو ضباط وجنود الشرطة والأمن المركزي في هذا اليوم نظرة خوف لم ألحظها خلال عشرات التجارب الشبيهة التي خضناها!

كانت الاشتباكات على كوبري الجلاء وقصر النيل من جهة التحرير هي أشد ما واجهنا خلال مسيرتنا، وكان تعليقنا أن إسماعيل الشاعر -مدير أمن القاهرة حينها- قد قرر استعراض قوته علينا.

في ميدان التحرير

ما إن دخلنا ميدان التحرير، بعد العصر بقليل، حتى فاجأتنا مدرعة مسرعة وينطلق من فوقها مدفع ماء. فانطلق (أ. ا) متسلقا وجه المدرعة حتى وصل إلى الجندي المتمركز فوقها، وأمسك به ثم قفز إلى الأرض في مشهد بطولي وفدائي فريد.

وانضمت للتحرير مظاهرات جاءت من جهات أخرى، مثل دار الحكمة وشبرا ودار القضاء.

واستمرت الاشتباكات على أطراف الميدان من جهة القصر العيني ومحمد محمود، وكان شباب الأولتراس هم أبطال هذه المعركة بامتياز، لكن لم تلبث أن هدأت في الجهة الأخرى.

تجمعنا أنا والأصدقاء من مجموعتنا للمرة الأولى قرابة الرابعة والنصف، نتناقش حول الموقف ومآلاته، وأشرت بضرورة الاتصال بقيادة الجماعة لإبلاغهم بالموقف، واتصلت بدكتور عصام العريان، وكان أول ما قلته: "يا دكتور وجه مصر اليوم مختلف، وضروري حد من إخواننا ييجي يشوف اللي بيحصل"، فردّ بأنه كان مشاركا في الوقفة عند دار القضاء وانصرف، ولم يكن لديه تفاصيل التطورات، فقلت له إن مظاهرات وحشودا من مناطق مختلفة قد تجمعت في التحرير، وإننا سرنا لمسافة طويلة بكتلة بشرية كبيرة لم نختبر مثلها سابقا، فأخبرني أنه سيرى ويكلمنا.. ثم لم نتلق منه شيئا بعدها.

تمركزنا في الحديقة المتوسطة للميدان، وبدأ الشباب يتجمعون من مجموعات مختلفة، منهم: خالد السيد ومحمد عباس وإسلام لطفي وسامح البرقي و(م. ع) و(خ. ع) و(ز. ا) و(م. ش) والصديقتان (ج. ش) و(ع. ش) وآخرون.

أحسب أن أحدا لم يكن يتخيل أن ننجح فيما وصلنا إليه، فاحتجنا بعض الوقت لنفرح بهذا الإنجاز ونحاول أن نفهم ونتابع ونفكر، اتفق الزملاء على الاجتماع في نفس المكان على رأس كل ساعة، وأذكر أننا التقينا بعد ذلك الساعة 6 ثم الساعة 7 ثم الساعة 8 مساء.

في الاجتماعات المبكرة نوقشت عدة اقتراحات، منها التوجه لمجلس الشعب وإعلان الاعتصام هناك والمطالبة بحل البرلمان وإعادة الانتخابات، بما أن المشهد الأقرب الآن هو البرلمان المزور، لكن رُفض ذلك حتى لا نترك التحرير.

كذلك ناقش عدد من الحاضرين "أذكر أنه كان من بينهم سامح البرقي وإسلام لطفي وكمال أبو عيطة و(ز. ا.)" المطالب التي يمكن إعلانها من الميدان، وأن هذه الأعداد المحتشدة لا يمكن أن يقف سقف مطالبها عند إقالة وزير الداخلية، بل يجب المطالبة بإقالة الحكومة، إضافة لمطالب أخرى منها حل مجلسي الشعب والشورى وإجراءات متعلقة بالعدالة الاجتماعية وتحسين الوضع الاقتصادي، وقبل أن تكمل المجموعة التي كانت تعمل على صياغة البيان نقاشها، علت هتافات المتظاهرين تقول "الشعب يريد إسقاط النظام" وهذه كانت أول مرة يتردد فيها هذا الهتاف خلال يوم 25 يناير، فقال (ز. ا): "الناس كدا حددوا السقف وما ينفعش نكتب مطالب تكون أقل مما يريده الشعب"، ومزقوا الورقة وبدأوا يكتبون بيانا جديدا عنوانه "الشعب يريد إسقاط النظام". شخصيا، لم أصدق نفسي حين سمعت هذا الهتاف وانتفضت جاريا نحو المظاهرة وأنا أردده معهم، كنا خلال السنوات الماضية لدينا حدود لا نتجاوزها في الهتاف، وغير مقبول أن نذكر الرئيس باسمه أو صفته، لدرجة أن مشادات وقعت بين الإخوان وباقي الحركات السياسية أكثر من مرة في مظاهرات على سلالم نقابة الصحفيين بسبب رفض الإخوان الهتافات ضد الرئيس.

نوقشت فكرة إعلان الاعتصام.. وكانت هناك مخاوف من قلة العدد أو انصراف البعض إلى بيوتهم مع نهاية اليوم وبرودة الجو، وتحدث البعض عن أهمية المحافظة على الشعور بالإنجاز الذي تحصل من مجمل أحداث اليوم، وأنه من الضروري ألا نسمح بفض الاعتصام بالقوة فيحبط الشباب.

حاولنا أكثر من مرة التواصل مع قيادات الإخوان، لإطلاعهم على المستجدات وطلب الدعم، فتواصلنا مع الأستاذ السيد نزيلي رحمه الله، ود. عصام حشيش وغيرهما، ولكن لم نجد ردا شافيا، بل إن أحد إخواننا قال: "خليكم في اللي انتم فيه وسيبونا في اللي احنا فيه!"، قلنا ربما كان يخشى الحديث على الهاتف..

من جهة أخرى، أخبرني صديقنا مصعب الجمال أنه هو و(م.ا) كانا في المجموعة التي تظاهرت أمام دار الحكمة، وبعد أن وصلوا إلى التحرير وبدأ الحديث عن الاعتصام، ذهب مع مصطفى إلى د. عبد الجليل مصطفى في عيادته بباب اللوق، وأخبراه أن الشباب في الميدان ينوون الاعتصام، كان رأيه أقرب لترجيح الاعتصام لكنه كان محتارا، فاتصل بدكتور محمد البرادعي ووضعه على مكبر الصوت، وأخبر البرادعي أن الشباب في الميدان وعايزين يعتصموا، ايه رأيك؟! فرد عليه البرادعي: أنا ما اعرفش وماليش دعوة وأغلق التلفون، وكان هذا التصرف صادما لهما، فقرر المغادرة هو وصديقه عائدين للتحرير.

يبدو أن الجميع احتاج لفترة من الوقت لإدراك حجم وحقيقة ما حدث بمصر في نهار 25 يناير!