شهادة غريبة على عصر أغرب (1/5)

شهادة غريبة على عصر أغرب (1/5)

06 يناير 2021
+ الخط -

حين صدر هذا الكتاب عام 1999، كانت حرب المذكرات السياسية في مصر قد بلغت أشدها، ومع ذلك لم يحصل هذا الكتاب على الصدى الذي كان يتوقعه مؤلفه وناشره وقوبل بصمت كامل، ربما لأن اسم مؤلفه كان مجهولاً للكثير من القراء الذين زهقوا من تبادل الاتهامات بين رجال عهود عبد الناصر والسادات على صفحات المذكرات السياسية التي قدمت تواريخ مختلفة للمصائب التي نزلت بمصر في العقود التي أعقبت ثورة يوليو 1952، أو لأن أغلب الصحف الحكومية والحزبية تجاهلت الكتاب، فلم يشد به إلا الكاتب إبراهيم سعدة رئيس تحرير (أخبار اليوم) لكنه لم ينقل كثيراً مما جاء فيه، وكان من حسن حظي وسوء حظ مؤلفه أن أكون أول من استفاض في عرضه على صفحات صحيفة (الجيل) الأسبوعية حديثة الصدور، ليجلب ما كتبته للمؤلف صداعاً لم يكن يتمناه.

عنوان الكتاب (عرفت السادات ـ نصف قرن من خفايا السادات والإخوان)، ومؤلفه الدكتور محمود جامع أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين البارزين والسابقين، والذي كان بلديات الرئيس السادات وصديقه منذ قيام ثورة يوليو، وقد لعب بعد وصول السادات إلى الحكم دوراً مهماً في التقريب بين السادات والجماعات الإسلامية المختلفة التي استخدمها في ضرب وتحجيم اليساريين والناصريين الذين خاف منهم على حكمه، ومع أن محمود جامع تعهد في مقدمة كتابه بأنه لن يصفي حساباته الشخصية مع مسئولي الحكم في العصور المختلفة ولن ينبش قبور الأموات، بل "سيخاطب عقول وقلوب وضمائر شباب هذا العصر"، لكنه نسي ذلك التعهد على مدار الكتاب الذي قرر فيه أن ينصب نفسه راوياً أوحد لتاريخ مصر منذ قيام ثورة يوليو، موزعاً الاتهامات يميناً وشمالاً وخالطاً بين الحقيقة والحلم والخرافة، ليقدم شهادة غريبة على عصر أغرب، لا زالت مصر تعاني من تبعات ما جرى فيه حتى الآن.

بدأ محمود جامع كتابه برواية حلم قال إنه رأى فيه الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي والذي كان من أعز أصدقائه، وقد جاءه في المنام ليلة 2 أكتوبر 1998، وهو يرتدي العمامة والجبة والقفطان وأخذ يكتب بالقلم على طرف قفطانه بعض السطور ثم قال للدكتور محمود جامع: "هذه مقدمة كتابك يا محمود أهديها لك"، وكأنه أراد بتلك الواقعة أن يكسب كتابه حصانة ما، خاصة وقد كان الحزن الشعبي على رحيل الشيخ الشعراوي في ذروته وقت صدور الكتاب، وكما روى لي أصدقاء فقد غضب الدكتور محمود حين كتبت أن زيارة الشيخ الشعراوي لا يجب أن تعني شيئاً لقارئ كتابه لأن الرسول عليه الصلاة والسلام علّمنا أن الشيطان يمكن أن يتمثل في المنام بأي صورة أو هيئة، ولذلك ربما كان المنام الذي رآه نتيجة عسر هضم أصاب المؤلف خاصة في ليالي أكتوبر التي تتقلب فيها الأجواء بشكل "يجيب العيا" وينتج الأحلام السيئة.

في نقلة زمنية إلى الأيام الأخيرة من حياة السادات يقول محمود جامع إن السادات انفصل عن الجميع في آخر أيامه وأصبح عصبياً متوتراً حاد المزاج أكثر حتى من جمال عبد الناصر الذي كان السادات يعيب عليه دائماً توتره

لم يكن ذلك الحلم الوحيد الذي احتوى عليه الكتاب، ففي الكتاب واقعة أهم لها علاقة بالأحلام، حيث يروي محمود جامع أن الشيخ محمد خليل الخطيب إمام مسجد السيد البدوي في طنطا، والذي تعرف به السادات عن طريق محمود جامع وأصبحا أصدقاء منذ أن كان السادات نائباً لعبد الناصر، قد تنبأ للسادات بأنه سيتخلص من مراكز القوى وسينتصر في حرب أكتوبر، وذلك بعد أن طلب السادات من الشيخ الخطيب أن يدعو له، مضيفاً أن الشيخ الخطيب "كان يرى أشياء في منامه ويبلغني بأن أوصلها للسادات وكنت أفعل وكانت رؤياه تصدق دائماً لأنه من رجال الله المخلصين، وكان السادات يعلق صورة الشيخ محمد الخطيب وهو بصحبته في منزله تبركاً وحباً واحتراماً، وكان قبل إقدامه على أي قرار مصيري خطير، كان يزور سيدي البدوي تبركاً، وقد فعل ذلك قبل ثورة التصحيح وقبل العبور وقبل زيارة القدس وقبل مباحثات كامب ديفيد... وكان الشيخ الخطيب يرى الرسول كثيراً رؤيا يقظة ويخبرنا بما رآه وكنا نصدقه"، وكأن محمود جامع ينتظر من قارئ كتابه أن يبارك بالتبعية كل القرارات التي اتخذها السادات وإن كانت كارثية، لأنها ـ حاشا لله ـ جاءت بتعليمات مباشرة من الرسول عليه الصلاة والسلام نقلها إلى السادات خطيب مسجد السيد البدوي.

في موضع آخر من الكتاب يروي محمود جامع أنه ذات مرة بعد أداء صلاة الجمعة في مسجد بمنطقة الحرّانية يقع أمام منزل المقاول الأشهر المهندس عثمان أحمد عثمان صهر السادات وأبرز المقربين منه، قال له السادات بكل فخر إن مناحيم بيجين قال له إن لديهم كتاباً مقدساً يقول إنه في هذا الزمن "سيظهر رسول جديد ينشر السلام في المنطقة واسمه محمود وأوصافه تنطبق بالتمام على السادات وأنه سيموت وسيدفن في سيناء وكان السادات في غاية الفرح والابتهاج بذلك وهو ما جعله يصدر قراراً بأن يُدفن في سيناء"، وهي وصية لم تنفذ إذا صدقنا أن السادات قد أوصى بها بالفعل، ربما لأن أسرته تعاملت مع ما كان يقوله بيجين بوصفه اشتغالة إسرائيلية يمكن أن يفرح بها السادات بعض الوقت، لكنه لا يمكن أن يأخذها بجدية كاملة، ثم يضيف محمود جامع أن السادات كان يفكر في أواخر أيامه في أن يلبس ملابس فرعونية ويركب مركبة فرعونية تسير به في شوارع القاهرة حتى منطقة الأهرامات وتستقر أمام تمثال أبي الهول في مهرجان شعبي كبير، "وكانت الفكرة مختمرة في ذهنه لكنها لم تتم بسبب اغتياله".

من الأعاجيب التي يرويها محمود جامع في كتابه واقعة تروي أنه قام بتسجيل عشر حلقات من برنامج (حديث الروح) مع المخرج عبد النعيم شمروخ، كبديل للشيخ الشعراوي في وقت أجازته، وأن تلك الحلقات أذيع بعضها ثم توقفت فجأة، وكان محمود جامع يتحدث في الحلقات جامعاً بين الدين والطب، ولم يفهم جامع سر توقف الحلقات، إلى أن اتصل به الشيخ الشعراوي تليفونياً وقال له إنه يتحدث معه من داخل محل أبو شقرة الكبابجي الذي كان قد خصص غرفة كبيرة للشيخ الشعراوي يلتقي فيها مع أحبابه بشكل منتظم، وكان يفخر بتعليق صور الشيخ الشعراوي على جدران المحل، وقام الشيخ الشعراوي بإخباره أن السادات أصدر قراراً يمنع جامع من تسجيل أحاديث إذاعية وتلفزيونية أو حتى دخول مبنى الإذاعة والتلفزيون في المستقبل، وكان سر ثورة السادات العارمة أن محمود جامع قال في إحدى حلقات البرنامج إن له صديقاً قال له إنه يتعاطى كأساً من الخمر قبل النوم لتنشيط الدورة الدموية والقلب وأنه قد يتعاطى بعض المخدرات مثل الحشيش لتنشيط قوته بشكل عام، وشرح محمود جامع للمشاهدين أن هذا حرام شرعاً وغير صحيح علمياً، ومع أن محمود جامع تحدث بشكل غير مباشر ولم يقم بتسمية صديقه، إلا أن السادات غضب وشعر أن محمود جامع يتحدث عنه، ولذلك اتصل بهمت مصطفى وألغى البرنامج من الخريطة أصلاً، وهو ما قاله الشعراوي لجامع وأكدته له همت مصطفى رئيسة التلفزيون التي اشتهرت بعبارة "يا همت يا بنتي" التي كان السادات يخاطبها بها في أحاديث القرية الشهيرة التي كان يسجلها معها بانتظام.

واقعة أخرى لا تقل إثارة وتشويقاً يروي فيها محمود جامع أن وكيل أعمال رجل الأعمال السعودي الشربتلي ـ لم يذكر اسمه الأول ـ ومعه لواء طيار بالمعاش قال إنه يسكن وقت صدور الكتاب بشارع عبد العزيز آل سعود بحي المنيل بالقاهرة، ومعهما من وصفه بأنه "قطب برلماني معارض الآن وعضو بمجلس الشعب"، وشخصان آخران لا يعرفهما يحمل كل منهما شنطة سامسونايت، كل هؤلاء زاروا محمود جامع مرة في مسكنه بمدينة طنطا قبل حرب أكتوبر بفترة قصيرة، وقالوا لجامع إنهم يعرفون علاقته الوثيقة بالسادات وأنهم يعلمون أن السادات يبحث عن سلاح، وهم على استعداد لإمداده بكل ما يريده من سلاح عبر دول حلف وارسو أو الدول الغربية ودون علم الاتحاد السوفيتي، وذلك لأن جنرالات حلف الأطلنطي يبيعون هذه الأسلحة المتطورة لتجار السلاح سراً ويقبضون ثمنها، وأنهم لن يقوموا بإتمام البيع إلا بعد تسليم الأسلحة في الزمان والمكان والميناء الذي يحدده السادات، خاصة أن الرئيس الليبي معمر القذافي كان قد وقع ضحية عملية نصب من تجار سلاح قبضوا منه مقدماً ثمن أسلحة أراد شرائها ثم أرسلوا له صناديق مليئة بالأحجار والزلط، ولكي يتمكن السادات من معرفة ما ينوي شرائه قام زوار جامع بإعطائه شنطة تحتوي على كتالوجات للأسلحة المختلفة.

يقول محمود جامع بعدها بالنص: "ثم قالوا لي تحديدا قل للرئيس السادات إن العمولة التي ستكون من نصيبه جاهزة وعليه أن يحدد اسم البنك الذي ستوضع فيه مبالغ العمولة خارج مصر وبنفس النسبة وبنفس الطريقة التي كنا نتعامل بها مع جمال عبد الناصر وهم يعرفون إنك عارف بذلك"، وسافر محمود جامع إلى السادات ليلتقي به في استراحته في القناطر، وتم استدعاء المشير أحمد إسماعيل الذي كان يتولى مسئولية المخابرات وقتها لكي يحضر الاجتماع، وطلب السادات منه التحري بدقة عن الذين عرضوا الصفقة لكي يتأكد من عدم كونهم عملاء للموساد، وبعد انصراف أحمد إسماعيل من الاجتماع روى محمود جامع للسادات حكاية العمولة الخاصة التي عرضها الوسطاء على السادات، فضحك السادات الذي كان يجلس على كرسيه الهزاز الشهير وأخذ نفساً طويلاً من غليونه ثم قال لمحمود جامع: "صح يا محمود همّ بيتكلموا مضبوط وعبد الناصر كان بيخصص حساب مستقل لهذه العمولات في بنوك الخارج باسمه ولا يأخذها لنفسه بل ينفق منها بطريقة سرية على ما يخص الأمن القومي للبلد ولا ينتفع بهذه الأموال أبناء الرئيس أو أسرته"، ثم طلب السادات من محمود أن يبتعد عن الصفقة حرصاً على حياته.

في نقلة زمنية إلى الأيام الأخيرة من حياة السادات يقول محمود جامع إن السادات انفصل عن الجميع في آخر أيامه وأصبح عصبياً متوتراً حاد المزاج أكثر حتى من جمال عبد الناصر الذي كان السادات يعيب عليه دائماً توتره، كما يروي محمود جامع أنه استشار مرة الفقيه الدستوري الدكتور أحمد فتحي سرور ـ لم يكن وقتها قد تولى منصباً رسمياً ـ في أنه يريد أن يبلغ السادات اعتراضه على اعتقالات سبتمبر 1981 وأن فتحي سرور وافقه في رأيه، لكن صديقاً آخر لم يسمّه نصحه بألا يتحدث مع السادات في ذلك لكي لا يغضب منه، لكن محمود جامع لم يستمع لنصيحته وقام بإبلاغ رأيه للسادات برفق قبل اغتياله بيومين، فثار عليه السادات وقام وتركه في الحديقة بمفرده، وفي حركة ريفية أصيلة قام بإلغاء المشروب الذي كان قد طلبه لمحمود جامع، لكنه في موضع آخر من الكتاب يذكر تفصيلة مختلفة وهي أن السادات طرده من البيت حين حدثه في الأمر، فلا تدري هل كان قد نسي هذه التفصيلة في المرة الأولى، أم أنه خجل منها ثم تشجع وقرر ذكرها.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.