شعور يُلامس القلب

شعور يُلامس القلب

30 سبتمبر 2020
+ الخط -

الشعر في رأيي شعور يُلامس القلب ويُحدث في النفس اهتزازاً، فينبض به الوجدان على فيض من الانفعال الذاتي تجاوباً مع حركة الاهتزاز تلك، وما كان دون هذا، وبمجرد أدنى شك بجودته وأصالته، لم يعد شعراً ويبقى مجرد رصف كلم، ونثر قصيد مقفّى، أو هو نظم أجوف خال من الحس، ليس له وقع ولا جرس، ودونما اتساق في المبنى، ولا نضوج في المعنى، وإنما تجريد من الفكرة، وافتقار لأسلوب الأداء السليم، الذي يتسلل برفق ولين إلى القلب، يشيع فيه الارتياح، وقلما أن يستأذن السمع، من غير إملال ولا سأم.

فإذا كان على احتوائه كل هذه الصفات والمقومات، واشتماله على مبدأ الأصالة ودعائم الصدق في التعبير، والإخلاص في العمل الفني، فهو قد تهيأ لمرحلة أخرى، هي مرحلة البناء، بمعنى أنَّ الشعر أياً كانت أرومته، حديثة أو قديمة، يجب أن يكون شعراً بناء، ذا رواء وعطاء، وفيه إنتاج سامٍ لهدف أسمى، وزخم حسن لغاية أحسن، وسيلتها نقاوة التعبير وسلامته من كل شائبة، لا أن يكون سفسطة، ووسيلة افتعال، وأداة ارتجال، وترفاً كتابياً ليس غير؟!.

وإذا كانت المدرسة القديمة ما زالت محافظة على تراثها، وكان خريجوها يتمتعون بأوفر قسط من التجلّة، فمرد ذلك إلى ما خلفوه من روائع الشعر النابض في شتى ألوانه وخصائصه، سواء من دفق الشعور، أو سبك الحكمة في قالب أمتن من أن يأتي عليه التداعي، أو يواكبه الباطل، بحيث صاغ أقطاب الشعر العباسي والأموي وروّاد عصر صدر الإسلام أسمى آيات الحكمة والمآثر والأحاسيس، مما يفخر به حقاً، فكانوا بالفطرة التي نشأوا عليها حريصين على تصوير المجتمع الذي لازموه، والبيئة التي عايشوها وتفاعلوا فيها، تصويراً دقيقاً. فأنشدوا الحب، وطربوا للحداء، وبسقوط بغداد، منارة الفكر في ذلك الحين، سقطت معالم حضارة ومجد تليد، وجمَد الصقيع في القرائح، حتى إذا ما انبعثت الانتفاضة الثورية من قلب الأزهر، من جديد، وعادت للشعر مكانته، وللأدب عامة فعاليته.

سنظل نصرخ بإلحاح: نريد إنتاجاً ولا نريد تقييماً على حساب الإنتاج! لا نريد مضيعة للوقت في جدل بيزنطي عقيم، كما لا نريد بحال أن تستشري آفة الشعر المنثور الذي هو وليد العجز فحسب

 

إنَّ القصيد في العصر العباسي كان يغلب عليه طابع القوة، فكانت القصائد في غالبيتها متينة عصماء، وبعيدة عن كل تزمت وتقعر، وقوالبها متخلصة من كل قيد، ومتحررة من كل تحجّر وجمود ومنذ ذلك الحين كثر شيوع (رقّة الألفاظ) بكثرة الشعور الوجداني، وسلاسة العبارة، كما عمّ الشعر الموضوعي ونما، وهو يصف الطبيعة، ويفلسف حياة الإنسان والمجتمع، ويصور الكون والفن والحياة العامة والوجود الإنساني. وإن كان الشعر آنذاك بدا أقل تأثراً من النثر، وأمنع خضوعاً للصناعة اللفظية، وهناك شعراء مثاليون بارزون في هذا أمثال: البوصيري، صفي الدين الحلّي، وغيرهما، ومهما اختلف النقاد في تقييم الشعر، وتنقية ما سلم منه، وغربلته بدقّة وإحكام وروية، نرى أنّ الشعر قد انحط في الآونة الأخيرة لمجرد الميل إلى الصناعة اللفظية، وانعدام الفن الرهيف، وطغيان أدب (الكم)، على أدب (الكيف)، وجعل اللفظة مقدمة على الفكرة، والمبنى دون المعنى، وإذا جاء من يخلع على شعرنا الحديث، الحديث بفوضويته لا بعفويته، وبتكلّفه لا بفطرته إذا جاء من يخلع عليه ثوب الجودة، فإنها في كل الأحوال لا تضاهي ما في شعراء الأسلاف الفحول من قوة وفعالية وشعور، على أننا لا نجحف، ولا نغمط البعض، وهو قليل، حقّه من الإبداع والأثر الأدبي، وهم من قادة فكرنا البررة الخلّص لرسالة الفن للفن.. والفن للحياة، للمجموع، والأمناء على تركة الفكر، المعاصر المخضرم، كالبارودي، وحافظ، وشوقي، والرصافي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وجرجي زيدان، ومصطفى كامل، والمنفلوطي، ومي زيادة.

لقد كان هؤلاء المجيدون يعنون بالتصوير الحياتي المعبّر عن مكنونات وخلجات النفس، ويصقلون جوهرها صقلاً تفترضه البيئة، ويفترضه الواقع الصادق الذي التزموه، بنفس النزعات التي خامرت شاعرية المجيدين القدامى!

وبقدر ما وصل إليه الشعراء القدامى من مجد وبقاء، فإن بمقدور المدرسة الحديثة وبمتناولها أن تحذو الحذو نفسه، وأن تتطور به نحو ما يراد له من أهداف تخدم الأمة، وتسهم في معركة بقائها عزيزة شامخة باستثناء الشعر المنثور ذي العجز المفضوح، والذي لا يعتمد على مبنى ولا معنى.. ولا إيقاع بل هو بعثرة كلام، وبعثرة معان منها الغث ومنها الرديء، وما كان أهون الشرّين كان كلمات وحروفاً ليس إلا.

بلى.. إنه يمكن لمدرستنا الحديثة أن تكتب لنفسها البقاء والاستمرار عبر الأجيال، إذا كان أبناؤها صادقي الشعور.. صادقي التعبير، وإذا روعيت سلامة المعنى يتولد أدب حيّ تتوزعه (الكيفية)، لا (الكمية).

ونسمح لأنفسنا أن تتفاءل، وبين ظهرانينا أمثال: عمر أبو ريشة، شفيق جبري، نزار قبّاني، نديم محمد، الشاعر القروي، سليمان العيسى، الصافي النجفي، طلعة الرفاعي، مدحة عكاش وغيرهم ممن عاشوا تجاربهم، وتجارب قومهم وبيئتهم بصدق، وكانت لهم نشاطات حسيّة في أكثر من قطاع وميدان، فضلاً عن أنَّ للواحد منهم على اختلافهم في العقلية والمشارب أسلوباً خاصاً به حتى ليميزه عن سواه، ولكنهم يلتقون في نهاية المطاف عند هدف البناء.

نريد شعراً ثورياً حيّاً معبّراً، يفعل فعل البندقية، مثلما يكون كالوردة، نريده (إكسيراً) لحياتنا، وديمومة إبقائنا على مستوى عال من الفكر الرائع المثمر. نريد نتاجاً في الشعر، لا دراسات وانتقادات في كيفية قرض الشعر، وفي كيفية صنعته وتبيان وسائله وأرومته، فاشتغالنا في هذا، على حساب الأدب، تصنيع الأدب، بما فيه من شعر ونثر!

سنظل نصرخ بإلحاح: نريد إنتاجاً ولا نريد تقييماً على حساب الإنتاج! لا نريد مضيعة للوقت في جدل بيزنطي عقيم، كما لا نريد بحال أن تستشري آفة الشعر المنثور الذي هو وليد العجز فحسب، والذي يتهدد اللغة في آخر النهار، ونريد القضاء على آفته وقد تفاقمت، وعلى طفرته وقد استشرت.

إنّ الشعر المنثور لا شك يُعد عصا في عجلة مستقبلنا الأدبي العملاق، ولا يتم هذا، أو بعضه إلّا إذا ضاعفنا من كيفية الإنتاج الدسم للأسواق، لا من كميته وأدرنا ظهر المجن لهذا الهُراء القَميء، الذي لم يعد يتقبله قارئ للشعر، وعلينا بالتالي أن نسلك ما كان صالحاً منه وهذا نادر، والنادر لا حكم له.. علينا مع ما في ذلك من تسامح أن نسلكه مسلك النثر الفني، أو نعتبره لوناً من ألوان الكتابة لا أكثر، ووضع النقاط على الحروف، على أن تكون بيضاء من غير سوء.

لنسع من أجل هذا، ولنعمل لكي يتحرّر شعرنا من الشوائب والأوضار.. ويظل السؤال قائماً هل الشعر الحديث المنثور يُلامس القلب، أم أنه إسفين دق في مستقبل أدبنا العربي ولم نخلص منه إلى اليوم؟

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.