شطرنج وكلمات في رقعة الحياة
تتوالى إشعارات الموبايل لتخبرني بأنّني في خضم عدّة منافسات شطرنج عبر لعبة مثبّتة في هاتفي، والآن حان دوري لكي أنفّذ نقلتي في كلّ منها. يساورني الفضول لأشاهد نقلة الخصم الأخيرة، فأذهب وأقوم بنقلةٍ معاكسة ردّاً على الخصم.
تتكرّر هذه التحديات حتى تصبح جزءاً من الحياة التي تغدو بدورها تنبيهاً متكرّراً. إذ تتحوّل رقعة الشطرنج الافتراضية إلى شبح سريع الانتقال عبر الإنترنت، جيئةً وذهاباً، وتصبح الأزمنة الداخلية للعبة بتحدياتها المختلفة كأنها ساعات تتفاوت في أزمنتها. فالمواجهات المحدّدة بدقيقة تخلق ردوداً أسرع وأخطر من تلك المحدّدة بدقائق أكثر أو أيّام. ويصبح العامل النفسي جزءاً من اللعبة وقانوناً من قوانينها الداخلية.
هناك الكثير من القصص والحكايات حول الشطرنج، وأكثرها ما يحتفي بذكاء لاعبيها. وقد تُحاك أيضاً الخرافات ليضيع الخطّ الفاصل بين الواقع والمتخيّل. وبين هذا وذلك، يصعب على المستمع أو المتلقي التمييز بين الخيال والواقع في قصص هذه اللعبة، ومع ذلك يتوافق جلّ من تستهويه الشطرنج على سحر هذه الرقعة التي تختصر صراعات مختلفة ووقائع متنوّعة عبر التاريخ والجغرافيا. أحياناً، تبدو الرقعة كمسرح من مسارح الحياة تتقاسم فيه الشخصيات الأدوار، فيؤدي كلّ منها دوره ثم تتساقط القطع إلى الخارج كما تهوي أحجار الدومينو متتابعة.
تبدو رقعة الشطرنج كفضاء للحوار وتبادل الأفكار والمشاعر
تبدو رقعة الشطرنج كفضاء للحوار وتبادل الأفكار والمشاعر، فتصبح كما تصوّر الفيلسوف النمساوي، لودفيغ فتغنشتاين، شبيهة باللغة العادية للناس، مجالاً تكتسب فيه الكلمات معانيها بكيفية قولها لتبدو كما قطع الشطرنج، تتشكّل منها المعاني في كلّ مرّة على حدة. وكما أنّ المعنى للكلمة وليد سياقها ولحظة نطقها، فإنّ لكلّ قطعة في الشطرنج جدواها الناتجة من موقع انطلاقها قبل التحرّك وموضع نزولها. وبهذا، هي أمام خيارات مختلفة في كلّ مرّة، فهي إما لمواجهة الطرف المقابل، وإما للهروب منه، وإما للتحايل عليه، وإما غير ذلك من الاحتمالات المختلفة. وهنا تعتمد الشطرنج كما الرياضيات على المنطق، وإن كان كلاهما قد تقعّدت وتشكّـلت فيهما مجموعة قوانين وضعية تتحكّم في كلّ حركة.
فكما يمكن فهم قوانين الاحتمالات ببضع معطيات، كعدد مرّات المحاولة كما في لعبة النرد، فإنه يمكن توقّع عدد كبير من الاحتمالات بمجرّد افتتاح اللعبة وتحريك أوّل قطعة فيها. فكلّ حركة تقوم على استدلالات دقيقة، تماماً مثل المعادلة الرياضية التي تُحلّ خطوة بخطوة، وفيها يترابط الماضي بالحاضر في بناء استراتيجي لا مجال فيه للعبث أو العشوائية.
ومع أنّ الشطرنج يقوم على قوانين صارمة، لكنه في جوهره (كالشعر في اللغة) مساحة للحرية. فاللاعب يقرّر متى وكيف يتحرّك، مستفيدًا من قواعد اللعبة لصياغة استراتيجيته الخاصة. إنها حرية داخل نظام، حيث لا تكون القيود عائقًا، بل إطارًا يمنح لكلّ قرار وزنه وتأثيره. والقصيدة أيضاً كما رقعة الشطرنج، تحلّق بحروف الأبجدية بين فضاءات المعاني وضفاف القوافي، فتحوّل قوافيها مرابطاً للمعاني وتصنع من أوزانها وموسيقاها ألحاناً تحلّق بعواطف المستمع وتسمو به إلى أصدق الأحاسيس والمشاعر.
على الرغم من أن لعبة الشطرنج تقوم على قوانين صارمة، لكنها في جوهرها مساحة للحرية
تتشكّل أمام مخيلتي لوحة مفاجئة: وحينما أنقل القطعة من مربع إلى آخر على الرقعة، يحظر لي إعادتها إلى مكانها، بل عليّ أن أنتظر الخصم لأنّ الكرة في ملعبه كما يُقال. تمامًا كما في الحياة، كلّ نقلة في الشطرنج تُحدث أثراً لا يمكن التراجع عنه. القرار الذي نتخذه في كلّ مرّة يغيّر جزءاً من الواقع ويسهم في فرض حال جديدة وواقع جديد مختلف. فيكون التحدي حينها في القابلية على التكيّف، والمقدرة على التصرّف.
اللغة، الشطرنج، والحياة... ثلاثة عوالم لكلّ منها منطقه وقوانينه، تتوارد فيها الفرص ومجال الحرية فيها مرهون بكيفيّة التلاعب بقوانينها واحداً تلو الآخر.
يعاود الجوال تنبيهي بالإشعارات الجديدة، أتفحصها لأجد من ضمنها تنبيهات للعب نقلاتي القادمة في المواجهات المفتوحة، ويظهر أنّ الوقت المتبقي يتناقص شيئاً فشيئاً في غفلة مني، فأجد نفسي في هذه اللحظة متنقلاً بين عوالم مختلفة لها أزمنة غير متشابهة، ولها ظروفها الخاصة أيضاً.