شبح المقاومة

31 يناير 2025
+ الخط -

"الرجل الذي لا وجه له، ولا صورة حديثة، ولا ظهورا علنيا… ومع ذلك، ترتجف إسرائيل كلما يُذكر اسمه".

 بهذه الكلمات يمكن أن نبدأ الحديث عن القائد العسكري محمد الضيف، الذي عاش في الظلّ لكنه أثقل كاهل الاحتلال الإسرائيلي بأكثر مما تحتمله آلة حربهم. لا ترى الناس وجهه، ولا يعرفون أين يسكن، لكن الجميع في غزّة، وفي فلسطين كلّها، كانوا يشعرون بحضوره، ويحفظون صوته الذي يعلن المعركة ويرسم ملامح النصر.

لقبه "الضيف" ليس عبثاً. كان كالنجم الذي يظهر فجأة ليقلب الموازين ويختفي قبل أن تدركه العيون. لم يكن يوماً شخصية ثابتة في مكان أو زمان. لا هاتف، لا حضور علني، لا صورة حديثة. وكأن الاحتلال كان يطارد شبحاً لا جسداً، بينما كان هو يخطّط لضرباتٍ أليمة تركت إسرائيل تلعق جراحها مراراً.

لم يكن محمد الضيف شخصاً بقدر ما كان فكرة. والفكرة، مهما ضعفت أو جُرحتّ، تظلّ أقوى من الرصاص

في ظلّ الحصار، وفي الأزقة المخنوقة من قطاع غزّة، ولد هذا الرجل عام 1965 لعائلةٍ فقيرة هُجّرت من قريتها كوكبا. نشأ وهو يرى الجوع واللجوء والاستبداد، لكنه لم يرَ الانكسار. لم يكن مسار حياته مهيّأً ليكون رمزاً بطولياً؛ كان كأيّ شاب يحلم بمسرح صغير، وأدوار تمثيلية تُنسيه واقعه. لكن محمد دياب المصري، الذي كان يرسم على خشبة المسرح أحلاماً صغيرة، قرّر أن يجعل من واقعه مسرحاً، وأن يصوغ نصوصاً لا يمليها عليه أحد.

حين بدأت الانتفاضة الأولى، كان محمد الضيف شاباً ينقل فكرة أكثر من بندقية. لم يكن آنذاك شبحاً، بل شاباً يتحرّك بين الحارات ليزرع الكلمة. ومع الأيّام، بدأ يصوغ مساراً آخر؛ مسار الظل. كان يكبر في خفاء، يراقب أعداءه وهم يتوهمون أنهم يعرفونه، فيما كان هو يتنقل بين الأسماء والمخابئ كالريح، يخطّط بصمت وهدوء، ويدير معاركه كمن يرسم لوحة متقنة بأدق تفاصيلها.

طاردته إسرائيل لأكثر من ثلاثين عاماً، وحاولت اغتياله مرّات عديدة. لم يكن لديهم صورة حديثة له، لم يروه يمشي، لم يسمعوا سوى صوته. قالوا إنه فقد عينه، ويده، وساقه. هل كان ذلك مهماً؟ كلا، لأنّ محمد الضيف لم يكن شخصاً بقدر ما كان فكرة. والفكرة، مهما ضعفت أو جُرحتّ، تظلّ أقوى من الرصاص.

محمد الضيف، الذي عاش كالشبح، سيموت كفكرة تعيد ولادة ألف مقاتل، وألف قائد، وألف محمد جديد

في 2014، استهدفت إسرائيل بيته، قتلت زوجته وطفليه، واعتقدت أنّ "الشبح" قد انتهى. لكن محمد الضيف (أبو خالد) كان هناك، في مكانٍ ما، يرمّم جراحه ويخطّط لضربات جديدة. ظهر صوته من جديد ليعلن تحدّياً أكبر، وحين كان يطلّ بتسجيلاته الصوتية، لم تكن رسائله كلمات عادية؛ كانت بيانات تعيد تشكيل خريطة الخوف لدى العدو، وتزرع النصر في قلوب شعبه.

وفي "طوفان الأقصى" عام 2023، حطّم أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر". قاد عملية لم تكن فقط عسكرية، بل كانت كسراً معنوياً للمنظومة التي تظن أنها تمتلك القوّة المطلقة. لم يكن محمد الضيف قائداً يظهر في الصفوف الأمامية، لكنه كان في عمق كلّ خطوة، في أصوات المقاومين، في أيديهم التي تحمل السلاح، في كل جملة تُقال داخل النفق وخارجه.

عندما نعاه أبو عبيدة، كانت لحظة لا تشبه أيّ لحظة. ليس لأنّ رجلاً مات، بل لأن ثمّة أسطورة تودّع المشهد الواقعي لتسكن ذاكرة الشعوب. إسرائيل، التي لطالما أرادت رأسه، وقفت في لحظة مربكة. هل انتهى؟ لا، فمحمد الضيف، الذي عاش كالشبح، سيموت كفكرة تعيد ولادة ألف مقاتل، وألف قائد، وألف محمد جديد.

الضيف هو درب المقاومة الطويل، فكرة يتناقلها الفلسطينيون كوصية عابرة للأجيال، وشبح لن يختفي من مخيّلة إسرائيل حتى بعد أن يغيب جسده.

صمود غزال
صمود غزال
صحافية فلسطينية لاجئة في لبنان. تعمل حاليًا محرّرة في غرفة أخبار الموقع في "العربي الجديد".