سيرة عبد الله سيتامبوسيبل (4)

سيرة عبد الله سيتامبوسيبل (4)

17 نوفمبر 2021
+ الخط -

آدي يا سيدي حال الشاب الجامعي، تقدر تقولي التعليم والجامعة نفعوا مصطفى بإيه؟ آديني زيي زيه بنلف سوا في ساقية، شَبَه بعض في الواقع والألم والقرف، حتى في الحلم البكالوريوس ما فرقش، عارف ليه؟ لأننا الاتنين نفسنا نهج ونسيب البلد دي اللي بتاكل ولادها. إنت عارف مصطفى اشتغل إيه بالبكالوريوس اللي أمه هرت الحتة شربات لما خده؟ اشتغل مدير مبيعات، يعني أنا عندي وظيفة ثابتة عنه، هتقولي بس اسمه مدير مبيعات، هاقولك ده اسم دلع للشاب اللي بينزل بشنطة بضاعة يلف على الموظفين ده يرزل عليه وده يغتت عليه، زيه زي اللي بيقف على الرصيف يبيع بدلة حمادة أو حاجة تفرح العيال أو لانجريهات مستعملة للمدام عشان تفرح أبو العيال، الفرق بينهم كرافتة بس، يمكن عشان الكرافتة دي خد لقب مدير، تسأله بيدير مين، تلاقيه بيدير نفسه.

وتقولي تعليم.. يا أخي أحمد، إنت عارف الواد مصطفى ده لما كان في الجامعة كان غاوي تمثيل، كان فاكر إنه هيبقى أحمد زكي زمانه، بتعمل إيه يا مصطفى؟ باعمل بروفات مسرحية هتكسر الدنيا وهنعزم مخرجين يكتشفونا عشان نعدي يا كلاب ونسيبكو في الفقر ده، يوم المسرحية الأمن منعها بعد ما قعد شهرين هو وزمايله يعملوا بروفاتها، من ساعتها مصطفى ده اتكسر، ما بقتش فارقة معاه أي حاجة، زي ما يكون في حد كل روحه من جواه. إنت عارف مين اللي خطف خطيبته منه؟ أعز صحابه في الجامعة، وتقولي تعليم، على الأقل أنا حبيبة قلبي طلع إخوتها مسجلين خطر، يعني ناس واضحين وعندهم مبادئ. عارف بعد ما خطيبته خانته عمل إيه؟ سافر يشتغل في الغردقة وضبط مع واحدة أمريكية كان هيتجوزها، كانت شبه عيشة الكيلاني كده، بس كان ناوي يبيع نفسه ويشيلها ويسافر معاها، في الفترة دي كان مصطفى ده مَلِك المنطقة، صحابُه ما تعرفش تعدهم، وكل واحد فيهم يعمل معاه أحلى واجب على أمل يشده معاه لما يسافر، لما الموضوع باظ ولقت الحيزبونة حد تاني أحلى ما بقاش حد يعبر مصطفى بالصرمة، نفعه بإيه البكالوريوس؟ بقى كل شوية يشدني ويقولي يا ترى يا عبد الله هي الظروف اللي بتصنعنا ولّا احنا اللي بنصنع الظروف؟ أقوله هات سيجارة وأنا أقولك، لما يديني سيجارة أقوله بص يا مصطفى هأقولك حاجة حطها حَلَقة في ودانك، (..) أم الفيل أبو عينين قزاز، ده أهم مبدأ تمشي بيه في حياتك، أهم من البطاقة ذات نفسها.

اليومين دول قررت أحسن أحوالي وأبدأ إصلاح من الداخل، وبدل ما ألعن الظلام ألعن الشمعة

بس عمره ما سمع كلامي أبدًا، إنت عارف الفرق بيني وبين الواد مصطفى إيه؟ إن عنده كرامة وأنا الحمد لله ما عنديش، الظاهر شالوها مع الزايدة وباعوها لحد غني كان عايز كرامة جديدة، عارف الواد الفقري ده كان ممكن يبقى مليونير لو ركز في الغردقة وشرم والحتت دي، كان أول حد في الحتة طلعها، من وهو في الكلية راح هناك يشتغل مع حد قريبه في الأجازة، كان قريبه بيغسل عربيات هناك، خده وعلمه ازاي يساعده، ولما سافر قاله عايزك تمسك مكاني، استلم منه صولجان الغسيل، وابتدا يشتغل مع سواق انبسط منه واداه فلوس، وبعدين قاله إنت تشتغل معايا على طول، قاله لا أنا بادرس في خدمة اجتماعية، الراجل اتخض وقاله معقولة إنت طالب جامعي، قال يعني اتفاجأ بـميتين أمه، قعد ياكل دماغ مصطفى بكلام يحرق الدم حسسه إنه ابن وزير وجار عليه الزمن، في اليوم اللي بعديه راح يطوق عربية فيها أربع بنات زي الملايكة، هو بيقول ملايكة، أنا رأيي هتلاقيهم ******، عشان بصُّوا له بصات كلها احتقار مع إن لبسه كان نضيف، صعبت عليه روحه، قام رامي الفوطة في الأرض وراجع، يا عم الحاج ما تسيب اللي يبص يبص، إنت في إيه ولّا في إيه؟ لا كرامته نقحت عليه! طيب يا سيدي خلّي الكرامة تنفعك، عارف أنا لو مكانه أبجح وأبص لهم وأبرق لهم عشان يخافوا ويزودوا البقشيش. وتقولي تعليم جامعي، يا عم ده احنا في نعمة والنعمة. الحمد لله على الفقر والجهل، حاكم الفقر مع العلم لعنة.

اليومين دول قررت أحسن أحوالي وأبدأ إصلاح من الداخل، وبدل ما ألعن الظلام ألعن الشمعة، قلت لازم أزود دخلي بأي شكل، لقيت شغل إضافي، بس مواعيده تبتدي بعد ما يخلص الشغل الرسمي بساعة واحدة وأفضل فيه لبعد نص الليل، باشتغل "سكعوريتي" أو أمن خاص زي ما بيضحكوا علينا في الشغل عشان نحس إن لينا لازمة، شايفين المسخرة، من السابعة صباحًا وحتى الواحدة برضه صباحًا بافضل في الشارع، باصرف حوالي 50 جنيه أكل وشرب بره البيت ده غير التجريح من "البيج بوس" بتاعنا في شركة السكعوريتي اللي كان بيشغل منصب أمني مهم واتقلش منه في قضية فساد وبرغم كده عايش لي في دور عبده المهم طول الوقت، مع إن منظره تحس إنه حتى اتقفش في قضية فساد معفنة مش قضية فساد من اللي همَّ، لأ، أكيد اتقفش في قضية آداب، عموما مسيري أعرف لما يسيب الشركة بإذن الله.

أحيانًا تسرح بي الأفكار وأنا واقف ألف في شغلي في الليل الهادي الخالي وأقول لنفسي: ما دمت فعلًا مش هاتجوز ومش هاقدر ألاقي سكن محترم وأبعد عن خنقة وزحمة البيت اللي أهله ربوني، ما دام الكلام ده كلام حقيقي وواقعي ومفيهوش يأس ولا إحباط، لا ده واقع ملبوس على رأي الواد وليد، طب ليه بقه ما أحاولش أطور نفسي وأبقى حاجة عدلة زي ما الواد بلال بيوجع دماغي ليل نهار، ويقعد يحكي لي حكايات عن مليونيرات في الغرب كانوا معفنين أكتر مني وحلموا أحلام وصدقوها وفضلوا وراها، صحيح باقعد أناكف فيه واشتمه وأتريق عليه، بس لما باقعد مع نفسي باكتشف إن المشكلة إني فعلًا أحلم بحاجات كتيرة إني مثلا أتعلم كمبيوتر وأنضم إلى أي نقابة عمالية علشان أدرس كمبيوتر بسعر رخيص، لكن ده مش هيحصل إلا بعد شهور طويلة. حلم أحلامي كان دخول الجامعة المفتوحة عشان أحصل على شهادة عليا أغيظ بيها الواد مصطفى وأخلي أمي تحس إني عملت حاجة عدلة، بس فين الفلوس اللي أصرف بيها على دراسة 4 شهور مش 4 سنين. قدامي فرصة أدخل المعهد الإيطالي عشان أتعلم مهنة فنية وأروح بعثة، بس فين الوقت؟ مافيش معهد بيعمل دورات من بعد نص الليل لحد الفجر ـ وقت فراغي ـ إلا معهد فيفي عبده طبعًا، وللأسف جسمي ما يناسبوش.

الله يلعن أبو اليوم اللي سلمت فيه دماغي لبلال فضل زفت، أحلامي بقت كوابيس تؤرك منامي وتجعلني أعض أصابع رجلي من الندم، ما كنت عايش وراضي وفخور باللقب اللي خلعه عليَّ خالي وهو لقب "مستر كيس"، ولو عايز شرح للقب، فهو من الآخر قصده إني كيس فاضي، خالتي بقه بتناديني بالموكوس، باكون في غاية الانشكاح وهي تدللني بأرق الكلمات "يا موكوس يا خيبان".. معاهم حق أنا فعلًا موكوس وكيس فاضي بيلعب بيه الهواء. مرتبي في شغلي الجديد ألف وخمسمائة باريزة صغيرة، يعني برضه 150 جنيه، وبرضه ضايع ضايع، 16 ساعة عمل ولا بغل السرجة، طالع عين اللي خلفوني من غير فايدة، وكل ما اتعب أقعد أقول لنفسي: "إقلع غماك يا تور وارفض تلف.. إكسر تروس الساقية واشتم وتف.. قال بس خطوة كمان وخطوة كمان.. يا أوصل نهاية السكة يا البير يجف".. الله يخرب بيتك يا بلال يا فضل، بعد ما أخلّص شغلي على طول هاروح السيدة زينب وأصرخ وأقول: "يا أم العواجز أنا عاجز" وهادعي بالرحمة لصلاح جاهين الوحيد اللي حسسني إني مش موكوس عبثا.. بل موكوس لحكمة لا يعلمها إلا الله.. ونعم بالله.

...

فصل من كتابي (السكان الأصليين لمصر ـ حكايات عن عبقرية المكان وبلادة الحكام وطرمخة البشر)، والذي صدرت طبعته الجديدة عن دار المشرق في بيروت.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.