سيرة المرشح البرلماني الفارط (2)

سيرة المرشح البرلماني الفارط (2)

23 أكتوبر 2020
+ الخط -

سر الأصدقاء المداومون على حضور سهرة الإمتاع والمؤانسة عندما فتحنا سيرة مرشح مجلس الشعب الأهبل عبد الحميد الفارط (أبو أيوب). وقال أبو الجود إنه يعرف هذا الرجل معرفة شخصية، فقد التقى به، ذات مرة في زقاق الحَمَّام بإدلب، يمشي على العريض مثل الزعماء، ووراءه عددٌ من الشبان المعروفين بحب الضحك وصناعة المقالب، وكانوا يرددون بإيقاع متناغم مع إيقاع المشي الجماعي:

- أبو أيوب، أبو أيوب، أبو أيوب..

وعندما وصلوا إلى مكان بالقرب من الفسحة الصغيرة أمام فرن راسم، ركض بعضهم حتى تجاوزوه، والتفوا حوله وصاروا يهتفون: بدنا كلمة أبو أيوب.

قالت أم زاهر: بدهم "كلمة"، يعني خطابة؟

أبو المراديس: طبعاً خطابة. وعلى فكرة، من سنة 1990 لغاية سنة 2010، يعني لقبل الثورة بشوي، كان المنظر اللي حكى عنه أبو الجود مألوف، بتكوني يا ست أم زاهر مارقة في أحد شوارع إدلب أو الزواريب الضيقة، بتشوفي أبو أيوب عم يخطب وحواليه مجموعة من المسخرجية عم يصفقوا ويهيصوا، وكتير أحيان بيشيلوه ع كتافهم وبيمشوا فيه.. وأنا رأيي إنه التفافهم عليه عند فرن راسم دليل ذكاء منهم، لأن قدام باب الفرن كان في حجر ارتفاعه نص متر تقريباً، كانوا الناس ينشروا عليه الخبز السخن حتى يبرد، فإذا وقف أبو أيوب الفارط فوق هالحجر وبلش يخطب أكيد راح تلتهب مشاعر الجماهير الكادحة! وهون المكان في إلُه ميزة تانية، وهيي إنه قريب على شارع الجلاء، يعني لا يُستبعد تتطور الخِطَابة وتصير مظاهرة، وتمشي في شارع الجلاء، وينضم إلها ناس تانيين..

أبو محمد: سؤال؛ قبل الثورة كانت تطلع مظاهرات؟

أبو المراديس: طبعاً لأ. لو طلعت مظاهرة حقيقية في هديك الأيام كانت تعرضت لإطلاق الرصاص الحي بدون تردد. لكن أبو أيوب كان وضعه مختلف، فأولاً هو مجنون، ومعروف في كل المحافل الرسمية والشعبية إنه مجنون، وتانياً هو كان من عشاق حافظ الأسد، يعني لما بيخطب وبيتجمعوا الناس ممكن تصير مسيرة تأييد لحافيييظ، مو مظاهرة احتجاج..

أبو جهاد: أنا شايف الحكاية اللي رواها أبو الجود خربطت لنا الشغل. في السهرة الماضية حكى لنا أبو مرداس إنه الأهبل أبو أيوب قطع علاقته بالقرية وأجا على إدلب منشان يترشح لمجلس الشعب.

كمال (ممازحاً): خلينا نقول إنه أبو أيوب حرق مراكبه. مجلس الشعب من أمامكم ومحافظ إدلب من خلفكم، فسيروا وفقكم الله.

أبو المراديس: طيب أنا راح أتابع سرد السيرة. وبحب أوضح إنه الشعب السوري خلال العشرين سنة الأولى من حكم حافظ الأسد انقطعت العلاقة بينه وبين انتخابات مجلس الشعب. الشعب بيقول لحاله: إذا كانوا المخابرات والبعثيين هن اللي بيختاروا الأشخاص اللي بدهم يصيروا أعضاء بمجلس الشعب، وبيسجلوهم في قائمة الجبهة، وبينجّحوهم إجباري عنا، لأشو بدنا نهتم بهالانتخابات السخيفة؟ ولما ادعى النظام في سنة 1990 إنه صار في مقاعد للمستقلين، وإنه الانتخابات راح تكون ديمقراطية، في ناس صدقوا وناس ما صدقوا، وهدول الشكاكين اللي ما صدقوا اللعبة وجدوا ضالتهم في الأهبل عبد الحميد، وحقيقة إن وجوده أعطى للجو نكهة وفكاهة، ولذلك تبنوه، وبلشوا يعملوا ما يشبه التمثيليات الكوميدية الحية. في أول اجتماع بينه وبين المسخرجية قال له أبو ناصر الهسّي:

- أنت يا أبو أيوب صرت هلق مرشح الجماهير الكادحة، ومو كويسة بحقك ولا بحق الجماهير إنك تنام عند باب حَمَّام المحمودية، أو تحت السيباط، أو تحت السقيفة بالساحة التحتانية متل الكلاب الجعاريّة، خود، هي مفتاح الدار الزغيرة تبعي، بتقعد فيها وبتسجل عنوانها البريدي في دفترك، لأن إنت لما بدك تنشهر، وتوصل سمعتك لآخر الدنيا، راح يهتموا فيك رؤساء الدول الكبرى والبرلمانات العالمية، وراح يبعتوا لك حوالات مالية، فإذا بعتوا الحوالة فرضاً لتحت السيباط، وأجا الموزع ولقى كلب أسود متسطح على طولُه في الفَيّ، معقولة يسلّم الحوالة المالية للكلب؟!

لم يكن أبو أيوب بحاجة لكل هذه الأمثلة والإيضاحات ليقتنع بأخذ مفتاح الدار من أبو ناصر ليسكن فيها. فحتى المجانين يعرفون أن النوم في بيت مفروش ودافئ أحسن من النوم تحت السيباط أو عند باب حمام المحمودية.

انقسم أعضاء شلة عبد الحميد الفارط بالرأي حول موضوع الترشيح، قال بعضهم إن الخطوة العملية الأولى التي يجب اتباعها هي أن يأخذ المرشح هويته الشخصية، ويتجه إلى مبنى المحافظة، ويتقدم بطلب الترشيح ضمن المدة القانونية، وبعدها ينطلق لممارسة حقه الدستوري في الدعاية والإعلان، وبعضهم الآخر رأوا أن الأفضل إجراء بروفة، ومن خلالها يتم (جَسّ نبض) الشارع، للوقوف على مؤشر الشعبية التي يتمتع بها في هذه اللحظة التاريخية، وعلى ضوءها بيرشح نفسه وبيستمر حتى النهاية، أو بيتراجع وبيبحث عن عمل آخر.

قال أبو إبراهيم البايملي:

- لا تواخذوني يا شباب، اللي عم يحكي بهالمنطق أكيد متخاذل. أنا بشوف إنه القرار في ترشيح أبو أيوب مو ملكه، وإنما ملك الشعب، يعني تصوروا، الشعب بده عبد الحميد، وهوي يقول ما بدي!

المرشح أبو أيوب أيد كلام أبو ناصر، وأعلن، بالفم الملآن، بأنه لا يوجد شيء في العالم بقادر أن يثنيه عن هذا الأمر، فقد تأكد للقاصي والداني أن ترشحه مطلب جماهيري.

استغل أبو ناصر الهسي حالةَ الحماس التي نشأت عن تصميم عبد الحميد الفارط على الترشح، وسحبه من يده وركض به، والآخرون ركضوا وراءه، إلى الساحة التحتانية، وهناك بدأوا الهتاف والتعييش، وكان ثمة عربة خضار ذات ثلاث عجلات، أصعدوا المرشح الفارط فوقها، ونادوا على الناس الموجودين في الساحة أن يقتربوا ويسمعوا، وطلب أبو ناصر من أبو أيوب  أن يخطب معلناً ترشحه اعتباراً من الآن، وأن يطلب من هذه الجماهير أن تؤيده لأنه سيترشح باسمهم، ولأجلهم.

وقف أبو أيوب، ورفع رأسه إلى الأعلى، وقال:

- أيها الإخوة المواطنون، أيها الشرفاء، أيها الأبطال، أيها المناضلون، يا أحفاد خالد بن الوليد، وموسى بن نصير، والحجاج بن يوسف الثقفي، إن هذا يوم تاريخي كبير..

وفجأة سكت عبد الحميد، وانحنى وطلب من أبو ناصر أن يقرب أذنه من فمه، وهمس له قائلاً:

- العربانة عم تتحرك، جيبوا حجار حطوهن تحت الدواليب، هون الطريق نزول (منحدر) قسماً بالله إذا هلق بتفلت وبتدرج بتوصلني لدوار المحريب!

همس أبو ناصر: الحق معك.

وصاح بصوت مرتفع: عاش مرشحنا العظيم عبد الحميد الفارط عاش.

وطلب من المتجمهرين حول العربة الابتعاد قليلاً لكي يثبت الدواليب بالحجارة، وأثناء ذلك انفلتت الدواليب فعلاً، وبدأت العربة تمشي، فهرع الموجودون لإمساكها.

(وللقصة بقية)

   

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...