"سورية الجديدة"... بين تطلّعات المستقبل وتعقيدات الواقع
يقول برنارد لويس، المفكّر والمستشرق البريطاني الأميركي (عراب الفوضى الخلاقة): "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات، وتقوض المجتمعات، ولذلك، فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أميركا بهذا الدور، فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة، لتجنب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أميركا في ذلك: إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا".
في ظلّ الربيع العربي، ومنذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تحوّل المشهد السوري إلى لوحةٍ معقّدةٍ ومتشابكةٍ، تتداخل فيها الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية، فقد تجاوز الصراع كونه نزاعاً داخلياً بين الشعب السوري ونظام الأسد ليصبح ميداناً لتصفية الحسابات الجيوسياسية بين قوى إقليمية ودولية، ومع التحوّلات الأخيرة، بدأت تلوح في الأفق ملامح تغيّرات قد تؤدّي إلى ولادة "سورية جديدة"، لكن هذه الولادة محفوفة بالتحديات والمخاطر، ما يطرح تساؤلات حول شكل هذا الكيان المُرتقب وآفاقه المستقبلية.
شهدت التطوّرات الأخيرة مكاسب ميدانية غير متوقّعة لقوى المعارضة المسلحة، التي تمكنت من السيطرة على مناطق استراتيجية مثل حلب وحماة، وتهديد دمشق العاصمة...، جاءت هذه التطوّرات بعد تراجع الدعم العسكري واللوجستيي الذي كان يتلقاه النظام السوري من حلفائه الرئيسيين (روسيا، وإيران، وحزب الله).
تجاوز الصراع كونه نزاعاً داخلياً بين الشعب السوري ونظام الأسد ليصبح ميداناً لتصفية الحسابات الجيوسياسية بين قوى إقليمية ودولية
إيران التي كانت أحد الداعمين الأساسيين لبشار الأسد أصبحت اليوم منشغلة بصراعها المتصاعد مع إسرائيل، خصوصًا بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي استنزّف مواردها وقدراتها، كما أنّ حزب الله، ذراعها العسكرية في المنطقة، بات يعاني من خسائر كبيرة وتراجع في النفوذ بعد الحرب على لبنان في الأشهر الأخيرة. وفي الجانب الآخر، فإنّ روسيا التي لعبت دوراً محورياً في دعم النظام منذ بداية الأزمة تجد نفسها اليوم منشغلة بحربها المستمرّة في أوكرانيا، ما قلّل من قدرتها على تقديم الدعم العسكري الكافي لنظام الأسد.
هذه المعطيات وفّرت للمعارضة السورية فرصة للتحرّك، لكن طبيعة المعارضة نفسها تثير الكثير من التساؤلات، فهيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني، رغم محاولاتها النأي بنفسها عن جذورها المرتبطة بتنظيم القاعدة، لا تزال تحمل أيديولوجية إسلامية تجعلها محط قلق إقليمي ودولي. كما أنّ الفصائل المدعومة من تركيا رغم كونها أقلّ تطرفاً، فهي تنفذ أجندة أنقرة التي تسعى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية الخاصة، مثل: تقليص الوجود الكردي (قسد) على الحدود وضمان عودة اللاجئين السوريين من تركيا.
تمثّل سورية نقطة التقاء بين قوى إقليمية ودولية متصارعة، بالنسبة لإيران، سورية ليست مجرّد حليف، بل حجر أساس في "محور المقاومة" الذي تسعى من خلاله لمواجهة النفوذ الأميركي والإسرائيلي في المنطقة، ويعدّ الحفاظ على النظام السوري أمراً حيوياً لاستمرار تدفق الأسلحة والدعم لحزب الله في لبنان، لذلك، فإنّ أيّ تحوّل في ميزان القوى داخل سورية يمثل تهديداً مباشراً لهذا المحور.
أيّ تحوّل في ميزان القوى داخل سورية يمثل تهديداً مباشراً لمحور المقاومة
أما روسيا، فإنّ وجودها في سورية يعزّز نفوذها في الشرق الأوسط، ويمنحها قاعدة استراتيجية في منطقة تعتبرها مفتاحاً لتحقيق توازن في علاقاتها مع الغرب، ومع تراجع الدعم الروسي، يجد النظام السوري نفسه أمام معضلة حقيقية، إذ يصبح أكثر اعتماداً على قوى محلية ودولية أخرى قد لا تشاركه رؤيته المستقبلية.
تركيا، من جهتها، تلعب دوراً مزدوجاً، فهي تدعم المعارضة المسلحة، لكنها تظل حذرة من تصاعد نفوذ أيّ قوّة قد تهدّد مصالحها، خاصة الأكراد، وتعمل أنقرة على تحقيق مكاسب تكتيكية تضمن تقليل العبء الاقتصادي والسياسي الناتج عن وجود اللاجئين السوريين داخل حدودها.
يبدو أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا يتبعون استراتيجية غير واضحة تجاه الأزمة السورية، ورغم معارضتهم نظام الأسد، إلا أنّ المجموعات المعارضة القوية، مثل هيئة تحرير الشام، تصنّف منظمات إرهابية، ما يعقّد من إمكانية دعمها بشكل مباشر، هذا الغموض يعكس تردّد الغرب في الانخراط بشكل مباشر في الصراع، خاصة في ظلّ مخاوفهم من أنّ انتصار المعارضة قد يؤدي إلى صعود نظام أصولي في سورية.
في ظلّ هذا الموقف الغامض، يبدو أنّ الهدف غير المعلن للغرب هو استمرار الصراع بأقل تكلفة ممكنة، بما يضعف جميع الأطراف المتنازعة دون السماح بظهور فاعل قوي قادر على فرض سيطرته، لكن هذه الاستراتيجية تأتي بتكلفةٍ إنسانيةٍ كبيرة، حيث يظلّ الشعب السوري يدفع ثمن هذا الصراع المستمر.
الأمل في سورية جديدة لا يزال قائماً، ويعتمد تحقيقه على إرادة السوريين أنفسهم
لا يمكن الحديث عن سورية الجديدة دون الالتفات إلى التحديات الإنسانية الهائلة التي خلّفها الصراع، فقد أودت الحرب بحياة أكثر من 500 ألف شخص، وأجبرت الملايين على النزوح داخل البلاد أو اللجوء إلى الخارج، الأمر الذي تسبّب في تدمير البنية التحتية بالكامل تقريباً، ما يجعل إعادة الإعمار تحدياً هائلاً يتطلّب استثمارات ضخمة وتعاوناً دولياً واسع النطاق، لكن إعادة الإعمار ليست مجرّد عملية اقتصادية، بل تتطلّب معالجة شاملة للجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب، بما في ذلك تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم ضدّ الإنسانية، كما تتطلّب خلق نظام سياسي جديد يعكس تطلعات الشعب السوري، ويضمن التعددية والمساواة بين جميع مكوّناته العرقية والطائفية.
رغم كلّ هذه الإكراهات والتحديات، يظلّ الحديث عن سورية جديدة يعكس الأمل في إمكانية بناء دولة تنعم بالسلام والاستقرار، هذه الدولة تحتاج إلى نظام سياسي يوازن بين المصالح المحلية والإقليمية، ويضمن وحدة الأراضي السورية واستقلالها، لكن هذا السيناريو يتطلّب توافقاً داخلياً وإرادة دولية حقيقية لإنهاء الصراع ودعم إعادة الإعمار.
من دون هذا التوافق، قد تظلّ سورية مسرحاً لصراع طويل الأمد، حيث تتحوّل إلى مجرّد ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، بينما يستمر الشعب السوري في المعاناة. ورغم صعوبة الطريق، فإنّ الأمل في سورية جديدة لا يزال قائماً، ويعتمد تحقيقه على إرادة السوريين أنفسهم وقدرتهم على تجاوز خلافاتهم وبناء مستقبل مشترك لكلّ السوريين.