سورية الجديدة أمام مفترق طرق
تقف سورية اليوم على أعتاب لحظة حاسمة في تاريخها السياسي، بعد عقود من الخضوع لمنظومة الاستبداد والفساد. إنّها لحظة تتطلّب من الجميع، نُخباً وشعباً إعادة النظر في هُويّة وشكل الدولة السورية المقبلة، والخيارات الفكرية والسياسية التي ستُبنى على أساسها هذه الدولة.
إذا عدنا قليلاً إلى الوراء، قرابة مئتي عام، نجد أنّ سورية، شأنها شأن معظم البلدان العربية، كانت تحت الحكم العثماني، حيث ساد الجهل في عموم السلطنة، ومُنع التعليم بهدف إحكام قبضة إسطنبول على الولايات التابعة لها، ومُنعت أيّة نهضة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تحرّرها. ووفقاً لما ورد في كتاب "لماذا تفشل الأمم؟"، تأخرت الدولة العثمانية في تحديث نظام التعليم، كما عارضت استخدام المطابع، سواء بقصد أو بغير قصد. وفي أواخر أيّام الحكم العثماني، بلغت نسبة الأمية في الأقاليم العربية ما بين 85% إلى 95%، في حين وصلت نسبة التعليم في إنجلترا إلى 70%. ولا شك أنّ الشعوب غير المتعلّمة تكون أكثر عرضة للسيطرة، خصوصاً حين يُوظّف الدين في خدمة السياسة.
بعد تفكّك السلطنة العثمانية وتقاسم إرثها بين الدول المنتصرة، أُتيح للمجتمع السوري، لا سيما طبقته الثرية، فرصة التفاعل مع الغرب والتأثّر بقيمه وفكره. فخلال الفترة الممتدّة من نهاية الاحتلال العثماني، وحتى عام 1958، تبنّت النخب الحاكمة في سورية نموذجاً غربياً في الحكم والتفكير. لكنها أخفقت في ترسيخ هذا النموذج على المستوى الشعبي، الذي كان لا يزال يعيش تحت تأثير الإرث الديني العثماني. ثم ما لبثت هذه النخب أن تراجعت، ليصعد نجم الحركات القومية، وعلى رأسها الناصرية والبعث، إلا أنّ حكم البعث سرعان ما انحرف عن مبادئه، وتحوّل إلى نظام فردي عائلي، يفتقر إلى رؤية واضحة لبناء دولة مدنية قوية.
لا يكفي أن تُسقط ديكتاتورية الأسد؛ بل يجب ألّا يُفسح المجال لولادة ديكتاتورية جديدة، وإنْ لبست ثوباً مختلفاً
يمكن اختصار الـ150 عاماً الأخيرة من التاريخ السياسي السوري في أربع مراحل رئيسية، هي حكم ديني تحت مظلّة السلطنة العثمانية، وحكم نُخب متأثّرة بالفكر الغربي، أثناء وعقب الاحتلال الفرنسي، وصعود الفكر القومي، الذي تجلّى في الحقبة الناصرية، وتبعته مرحلة حكم البعث، والانحدار نحو حكم الفرد والديكتاتورية. ومع سقوط نظام الأسد، تُطوى فعلياً صفحة القومية العربية في سورية.
الحكم الحالي، ممثلاً بهيئة تحرير الشام، تنقّل بين نماذج فكرية متعدّدة؛ بدأ بالتشدّد السلفي المتأثّر بفكر القاعدة، وانتهى بنموذج براغماتي يسعى إلى إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، خطوة أولى في مسار استراتيجي لم تتضح معالمه بعد.
حتى الآن، لا يزال شكل الدولة السورية المُقبلة غير واضح، إذ جاء "الإعلان الدستوري" باهتاً، ضعيف الصياغة، يفتقر إلى الحدّ الأدنى من فصل السلطات والرقابة عليها أو في ما بينها.
وقد زاد الطين بلّة أنّ إحدى عضوات لجنة صياغة الدستور صرّحت بأنّ النموذج السوري يشبه الأميركي، في كلام يعكس جهلاً عميقاً بطبيعة النظام الفيدرالي الأميركي وآلياته.
في ظل هذا الغموض، لا بد من طرح السؤال الجوهري: ما شكل سوريا الجديدة؟ هل ستكون دولة مدنية تضمن الحريات، وتكرّس الفصل بين السلطات، وتؤمن بصندوق الاقتراع مرجعية نهائية؟ أم دولة دينية تتبنى نهجاً إسلامياً صريحاً وتسعى إلى تطبيق الشريعة باعتبارها مصدراً رئيسياً للحكم؟ أم نموذجاً هجيناً كالنموذج التركي، حيث تُتاح الانتخابات، لكن تُكبّل الحريات ويغيب استقلال القضاء؟ أم أننا مقبلون على شبه دولة، بمؤسّسات شكلية فارغة من الكفاءة، تسيطر عليها المحسوبيات ويعيث فيها الفساد؟ إن تحديد هوية الدولة ليس ترفاً نظرياً، بل ضرورة سياسية ومجتمعية، ولا يمكن للسلطة المقبلة أن تتذرّع بخصوصيّة الحالة السورية، أو تكرّر مقولة "لكل دولة تجربتها الخاصة"، للتهرّب من الاستحقاقات الديمقراطية. تلك العبارة التي طالما ردّدها بشار الأسد، لم تكن سوى غطاء لسياسات القمع والتسلّط. ما تحتاجه سورية اليوم هو وضوح في الرؤية، وصدق في الخطاب، ومشاركة شعبية حقيقية في رسم ملامح المستقبل.
فلا يكفي أن تُسقط ديكتاتورية الأسد؛ بل يجب ألّا يُفسح المجال لولادة ديكتاتورية جديدة، وإنْ لبست ثوباً مختلفاً.