سجن صيدنايا وحكاية الألم الذي لا يُمحى

14 ديسمبر 2024
+ الخط -

يقول خلدون منصور؛ أحد المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا، في شهادته ضمن كتاب "سجن صيدنايا خلال الثورة السورية: شهادات": "أثناء وجودنا في السجن كنا نملك الأمل بالله أن الثورة ستنتصر وأننا سنخرج، رغم وجود بعض الضعفاء، فعلى سبيل المثال كان أحد زملائنا في المهجع يجلس في الزاوية ويردد دوماً: "خلص.. راحت علينا.. رح يصير فينا متل جماعة الإخوان المسلمين وما عاد نطلع بحياتنا، بكرة رح يصفونا، وبكرة بدهن يعدمونا. كان هذا محبطاً جداً".

الذاكرة التاريخية ليست مجرّد سرد للأحداث التي مضت، بل هي شبكة معقدة تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، هي الهوية التي تشكّل وعي الشعوب وتعكس صراعاتهم وآمالهم وخيباتهم. وفي سورية حيث اختلطت مأساة الواقع بالماضي القريب والبعيد، تشكّل الذاكرة التاريخية ساحة معركة مستمرة، بين أولئك الذين يسعون إلى التذكّر وتخليد معاناة الضحايا، وأولئك الذين يعملون على طمس الحقائق وفرض سرديات سلطوية تهدف إلى إعادة كتابة التاريخ وفق مصالحهم.

سجن صيدنايا... ذاكرة القمع وأيقونة الألم

في قلب هذه المعركة تأتي رمزية سجن صيدنايا، الذي لا يمكن وصفه بمجرّد "مكان"، بل هو حالة رمزية تجاوزت الجغرافيا لتصبح نموذجاً لآلة القمع المنهجية. بُني السجن عام 1987 في عهد حافظ الأسد، ليصبح لاحقاً رمزاً لرعب السلطة وتفنّنها في محو الكرامة الإنسانية، حيث تعرّض فيه آلاف المعتقلين لأقسى أشكال التعذيب، بهدف، ليس فقط انتزاع الاعترافات، بل سحق الإنسان داخلياً وتجريده من أيّ أمل.

الذاكرة التاريخية ليست مجرّد سرد للأحداث التي مضت، بل هي شبكة معقدة تربط الماضي بالحاضر والمستقبل

التقارير الموثّقة وشهادات الناجين تصف سجن صيدنايا بأنّه "المسلخ البشري"، هذا الوصف ليس مجرّد استعارة بل حقيقة تجلّت في ممارسات القتل الجماعي، الإعدامات السرية، والجثث التي دُفنت في مقابر جماعية مجهولة، كما أنّ السجن لم يكن مكاناً للاحتجاز فحسب، بل مؤسسة تهدف إلى قمع إرادة الشعب السوري، حيث أصبحت الجدران شاهدة على صرخات الألم والذكريات التي تستعصي على النسيان.

الذاكرة كأداة مقاومة

في مواجهة هذا القمع، تصبح الذاكرة شكلاً من أشكال المقاومة، حين تروي ناجية قصتها المأساوية، أو يُرفع صوت رجل خرج من أعماق السجن بعد عقود من الغياب، فإنّ هذه الأفعال الفردية تتحوّل إلى حركةٍ جماعية تعيد إحياء الذاكرة الجماعية وتقاوم محاولات النسيان المُمنهج، فالتحرير الأخير لسجن صيدنايا، مع كلّ القصص التي خرجت من بين جدرانه، يمثّل لحظة تاريخية تتحدى الطغيان، إنه ليس فقط تحريراً للمعتقلين، بل أيضاً تحرير للذاكرة التي كانت محبوسة خلف الأسوار.

إنّ الذاكرة ليست مجرّد استرجاع لما حدث، بل هي استدعاء للحقيقة التي حاولت السلطات طمسها، فكلّ شهادة عن معاناة المعتقلين في صيدنايا هي فعل مقاومة في وجه نظام حاول السيطرة على الحاضر والماضي والمستقبل، إنّها طريقة لإعادة كتابة التاريخ بأقلام الذين عاشوه، بدلاً من تركه لروايات الذين سعوا إلى تشويهه.

العدالة كشرط لإحياء الذاكرة

لكن استعادة الذاكرة وحدها لا تكفي، فالذاكرة كي تصبح أداة فعالة للتحرّر، تحتاج إلى أن تُقرن بتحقيق العدالة، التي ليست مجرّد محاكمات وعقوبات، بل هي عملية شاملة تعترف بالمعاناة الجماعية وتعيد بناء الثقة بين الأفراد والمجتمع، تسعى إلى الاعتراف بحجم المأساة والالتزام بضمان عدم تكرارها.

إنّ الشهادات التي خرجت من صيدنايا، من أطفال ولدوا في السجن ولم يروا نور الشمس، ونساء حملن نتيجة الاغتصاب المنهجي، وعجائز عاشوا نصف حياتهم في زنزانات مظلمة، تمثل دعوة للمجتمع الدولي وللسوريين أنفسهم للنظر في مرآة التاريخ والعمل على تصحيح مساره.

التوتّر بين التذكر والنسيان

في هذا السياق، يبرز التوتّر الأبدي بين التذكّر والنسيان، هناك من يرى أنّ النسيان هو السبيل الوحيد للمضي قدماً بعد المآسي، وأنّ استرجاع الماضي يعيد إنتاج الألم، لكن هناك من يؤمن بأنّ التذكّر هو الطريق الوحيد لبناء مستقبل أكثر عدالة، ففي سورية تبدو هذه المسألة أكثر إلحاحاً، لأنّ الجروح لا تزال نازفة، والذاكرة لا تزال محفورة في وجدان كلّ من عاش المأساة أو عايش آثارها.

إحياء الذاكرة السورية هو التحدي الأكبر، لأنّه يمثل الخطوة الأولى نحو مستقبل خالٍ من الاستبداد ومليء بالأمل

التذكّر في الحالة السورية، ليس مجرّد خيار، بل واجب أخلاقي، فهو السبيل الوحيد لضمان أن لا تصبح الجرائم مجرّد أرقام في أرشيف النسيان، إنه فعل يرتبط بالمستقبل أكثر ممّا يرتبط بالماضي، لأنّ الاعتراف بالجرائم والعمل على معالجتها هو ما يضمن عدم تكرارها.

الذاكرة كمرآة للإنسانية

في النهاية، الذاكرة التاريخية ليست مجرّد تأريخ لما حدث، بل هي مرآة تعكس طبيعة الإنسان، في قدرته على إحداث الألم وفي قدرته على المقاومة. لذلك فإنّ سجن صيدنايا يمثل هذا التناقض البشري بامتياز؛ فهو مكان شهد أسوأ أشكال القمع، لكنه أيضاً فضاءً أظهر فيه الإنسان صموده وقدرته على البقاء رغم كلّ شيء. إنّ القصص التي خرجت من صيدنايا تحمل في طياتها رسالة إنسانية عميقة: "أن الذاكرة قادرة على تحدي القمع، وأن الإنسان، رغم هشاشته، يظل أقوى من آلة القهر"، من هنا فالذاكرة ليست فقط أداة لاسترجاع الماضي، بل هي دعوة للتأمّل في الحاضر وبناء المستقبل.

سورية والذاكرة... مفترق طرق

اليوم، تقف سورية عند مفترق طرق تاريخي، فإعادة بناء الذاكرة ليست مجرّد عملية تسجيلية، بل هي ضرورة وجودية لإعادة صياغة هوية وطنية قائمة على الحرية والكرامة والعدالة، إنها فرصة لإعادة كتابة التاريخ من منظور الضحايا، وليس من منظور الجلادين. وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف جورج سانتايانا: "أولئك الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بتكراره"، لذلك فإنّ إحياء الذاكرة السورية هو التحدي الأكبر، لأنّه يمثل الخطوة الأولى نحو مستقبل خالٍ من الاستبداد ومليء بالأمل.