سابقة خطيرة تهدّد العدالة الدولية

17 ابريل 2025
+ الخط -

في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، استقبلت المجر 3 إبريل/ نيسان 2025 رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، المطلوب دوليًّا بتهمة جرائم حرب، والصادر بحقّه مُذكّرة اعتقال.

المشهد في مطار بودابست كان انتهاكًا صارخًا لنظام روما الأساسي، مما يطرح تساؤلات مصيرية عن مصير العدالة الدولية في ظلّ هيمنة المعايير المزدوجة. وما يزيد من تعقيد الصورة هو إعلان المجر انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية تزامنًا مع زيارة نتنياهو، في خطوة تتناقض مع الالتزامات القانونية التي تفرضها عليها المعاهدات الدولية.

المجر بين الانحياز السياسي والمسؤولية القانونية

ما فعلته المجر هو خرقٌ قانوني مُتعمَّد، بموجب المادة 86 من نظام روما، إذ يتحتَّم على الدول الأعضاء "التعاون الكامل" مع المحكمة. ولكن المجر، بإعلانها الانسحاب من المحكمة تزامنًا مع استقبال نتنياهو، تختار مسارًا يفضح ازدواجية المعايير. واللافت أنّ بودابست رفضت سابقًا استضافة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، انصياعًا لنظام روما الأساسي وخوفًا من الملاحقة القانونية، ما يثير تساؤلات حول المفارقة الأخلاقية التي تُهيمن على سياسة المجر.

انقسامات داخل المجلس الأوروبي تعيق اتخاذ إجراءات عقابية ضد المجر

هذا التناقض العميق بين الموقف تجاه بوتين ونتنياهو يثير الكثير من الانتقادات، الأمر الذي دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلى وصف هذه الظاهرة بأنها "تحويل القانون إلى أداة انتقائية تخدم مصالح القوى العظمى".

الضغوط السياسية الخلفية 

تشير وثائق مُسرّبة من الخارجية المجرية (بحسب تقرير "بوليتيكو أوروبا" في مارس/ آذار 2025) إلى ضغوط أميركية - إسرائيلية كبيرة لتمويه مذكّرة الاعتقال الدولية بحق نتنياهو. وهذه الضغوط قد تكون السبب الرئيسي وراء الخطوات المجرية، التي تهدف إلى تأمين مصالحها السياسية والاقتصادية مع إسرائيل والولايات المتحدة. في الوقت نفسه يُشكّل الانسحاب من المحكمة الجنائية تهديدًا خطيرًا لشرعية المحكمة نفسها، ما يفتح الباب لعقبات جديدة حول إمكانية تنفيذ القرارات الدولية بشكل فعّال.

صمتٌ أوروبي وصخبٌ عربي

الاتحاد الأوروبي: اختبارٌ للوحدة القانونية، رغم أنّ المادة 21 من معاهدة الاتحاد الأوروبي تُلزم الدول الأعضاء بـ "احترام سيادة القانون"، تعيق انقسامات داخل المجلس الأوروبي  اتخاذ إجراءات عقابية ضدّ المجر.

أطلقت منظمات حقوقية حملات واسعة عبر الإنترنت، مثل حملة "انعدام العدالة"، التي تدعو إلى مقاطعة الشركات المجرية المتورّطة في التعاون العسكري مع إسرائيل

وبحسب مصادر دبلوماسية من "يورونيوز"، هناك انقسام حاد بين الدول الأعضاء حول كيفية التعامل مع الموقف، في حين أعلنت إسبانيا وبلجيكا رفضهما للتطبيع مع هذا التصرّف، نجد أن ألمانيا، عبر زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس الذي سيُنتخب في 6 أيار/ مايو القادم مستشارًا بعد توقيع الائتلاف الجديد، أشارت إلى أنه "سيجد وسائل وطرقاً لضمان زيارة نتنياهو في برلين ومغادرته من دون أن يتعرّض للاعتقال"، مما قد يؤدّي إلى فتح الباب أمام أزمة شرعية أوسع، أولها وضع ألمانيا في مرمى الانتقادات الدولية.

المواقف الدولية

 دعمت واشنطن علنًا "حق المجر في تقرير سياستها الداخلية"، في إشارة إلى رفضها المستمر للمحكمة الجنائية الدولية. هذا الموقف يعكس موقفًا طويل الأمد للولايات المتحدة من المحكمة التي غالبًا ما اتُّهمت بأنها مسيّسة وتستهدف الدول الكبرى، تزامنًا مع الموقف العربي والإسلامي الغائب.

من جهةٍ ثانية، أطلقت منظمات حقوقية حملات واسعة عبر الإنترنت، مثل حملة "انعدام العدالة"، التي تدعو إلى مقاطعة الشركات المجرية المتورّطة في التعاون العسكري مع إسرائيل. وهذه الحملة تأخذ طابعًا دوليًّا، ما يعكس اتساع دائرة الغضب ضدّ موقف المجر من العدالة الدولية.

النظام الدولي بين الانهيار القائم والإصلاح المزعوم

تُظهر إحصائيات المحكمة لعام 2024 أنّ حوالي 60% من القضايا التي تعاملت معها المحكمة الجنائية الدولية لم تُسفر عن إدانات، ما يعزّز من شعور العديد من المراقبين بعدم فعالية هذه المؤسسة في محاسبة كبار المسؤولين عن الجرائم الدولية.

مع انسحاب المجر من المحكمة، قد تشهد الفترة القادمة تصاعدًا في الدعوات لإصلاح نظام روما، خاصّة في ما يتعلق بكيفية تنفيذ القرارات الدولية وضمان التزام الدول بها

مع انسحاب المجر من المحكمة، قد تشهد الفترة القادمة تصاعدًا في الدعوات لإصلاح نظام روما، خاصّة في ما يتعلّق بكيفية تنفيذ القرارات الدولية وضمان التزام الدول بها. أيضًا، قد تؤدي هذه الخطوة إلى المزيد من الانسحابات من المحكمة، كما حذّر تقرير "المجموعة الدولية للأزمات" من تهديد مستقبل المحكمة بصفتها أداة رئيسية للعدالة الدولية. كما أنّ استقبال المجر لنتنياهو قد يُسرّع من التحوّل الجيوسياسي نحو "نظام عدالة مواز"، حيث تصبح تحالفات سياسية هي من يحدّد قواعد اللعبة بدلًا من احترام المبادئ القانونية الدولية.

المقارنة مع اعتقال البشير

في مقارنة تاريخية مع موقف المجر تجاه نتنياهو، استحضر اعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير في 2019، والذي قابله ردات فعل دولية متنوّعة؛ فقد كانت هناك ترحيبات من قبل المنظمات الحقوقية وكثير من الحكومات الغربية التي اعتبرت الاعتقال خطوة نحو تحقيق العدالة.

ما يميّز حالة البشير من نتنياهو هو التفاعل الدولي مع الموقفين، فحين اعتُبر اعتقال البشير خطوة مهمة على طريق العدالة الدولية، تمثّل استضافة نتنياهو في المجر تحديًا خطيرًا للعدالة الدولية، ويُظهر كيف يمكن لبعض الدول أن تُطبّق القانون بشكل انتقائي بناء على تحالفاتها السياسية، مما يهدّد نزاهة النظام القضائي الدولي.

العدالة أم الفوضى؟

المشهد في بودابست يُعدّ علامة انهيار متسارع لشرعية النظام الدولي، كما قال الرئيس السابق للمحكمة الدستورية، الألماني أندرياس فوسكوله: "عندما تتحول الذرائع القانونية إلى أدوات سياسية، يصبح القانون مجرّد خرقة تُمسح بها أقدام الأقوياء". السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل سيكون انسحاب المجر بمثابة جرس إنذار لإصلاح النظام الدولي؟ أم بداية لعهد جديد من الفوضى القائمة على تطبيق انتقائي للقانون الدولي؟ يشبه قانون الغاب.