زلزال المساعدات الأميركية

30 يناير 2025
+ الخط -

المثير في متابعة سياسة ترامب أنه يحوّل العملية لما يشبه طاولة قمار على ساحة السياسة العالمية، حيث تحمل في طياتها احتمالات متناقضة؛ فقد تأتي بقرارات مفاجئة ذات تأثير إيجابي في مكانٍ ما، أو قد تُحدث تغييرات جذرية تهزّ أركان العالم بآثار لا رجعة فيها. وعليه لم يضيّع دونالد ترامب أيّ وقت قبل أن يزلزل عالم التنمية والمساعدات الخارجية من أساساته، مُجبرًا شركات ومنظمات مجتمع صناعة المساعدات الأميركية على التدافع للتشاور مع مستشاريهم القانونيين لتحديد ما يعنيه أمره التنفيذي القاضي بوقف الإنفاق على المساعدات الخارجية لمدّة (90) يومًا، تقوم خلالها إدارته الجديدة بمراجعة برامج المساعدات لتقرّر ما المساعدات التي ستستمر وما الذي سيتم إلغاؤه، ليضرب منذ اليوم الأوّل لولايته الثانية قطاعًا تشكّل فيه ميزانية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية حوالي (40 - 50) مليار دولار أميركي سنويًا، ضمن مشهد لم يقلّ فيه إرباك الحكومات المتلقية للمساعدات عن إرباك الساسة الأميركين والعاملين في القطاع.

حجم المساعدات الخارجية الأميركية السنوي يمثل حوالي (1%) فقط من إجمالي الميزانية الفيدرالية الأميركية، يتم من خلالها دعم مجموعة من البرامج، مثل التنمية الاقتصادية، الصحة، التعليم، المساعدات الإنسانية في أوقات الكوارث والأزمات، ودعم الاستقرار السياسي والأمني بما يتوافق مع المصالح الأميركية في مناطق مختلفة حول العالم، بشكل جعل بعض الحكومات رهينة مثل هذه المساعدات. 

مع التأكيد على أنّ هذا جزء من الدعم فقط، فدعم الكيان الصهيوني على سبيل المثال بمبلغ (3.8)  مليارات دولار سنوياً يأتي تحت بند "المساعدات العسكرية الأجنبية" في جزء من اتفاقية المساعدات الدفاعية طويلة الأمد بينهما، وأشارت بعض التقارير إلى أنّ دعم بايدن للإبادة الجماعية في غزّة ب (17.9)  مليار دولار جاءت مساعدات عسكرية إضافية، ورافقها دعمه لحرب أوكرانيا خلال السنتين الماضيتين ب (61.4) مليار دولار مساعداتٍ عسكرية وأمنية، بالإضافة إلى (30) مليار دولار مساعدات لدعم الميزانية الأوكرانية، مما يجعل من الإنفاق الأميركي الخارجي بالمجمل فيلا حقيقيا.

المساعدات الخارجية تُشكِّل نسبة صغيرة من إجمالي الميزانية الفيدرالية الأميركية (حوالي 1% فقط)، وبالتالي فإن وقفها لن يكون له تأثير مالي كبير داخلياً

وعليه، فإنّ قرار ترامب الأخير بإيقاف جميع المساعدات الدولية الخارجية أثار تداعيات كبيرة على المستويين المحلي والدولي. داخلياً، تروّج إدارة ترامب إلى أنّ القرار سيحرّر الموارد المالية التي كانت مخصّصة للمساعدات الخارجية، مما قد يُستثمر في تحسين البنية التحتية أو دعم البرامج الاجتماعية المحلية. ومع ذلك، قد يُقابل هذا القرار بمعارضة داخلية، خاصة من منظمات المجتمع المدني وأصحاب المصالح الذين يعتبرون المساعدات أداة استراتيجية لتعزيز النفوذ الأميركي عالمياً وتحقيق الاستقرار الدولي (وفقًا الرؤية الأميركية)، وهو ما ينعكس إيجابياً على الأمن القومي للولايات المتحدة، بالإضافة لمعارضة المنظمات والشركات المنفذة للمشاريع والتي تتربّح من هذه الصناعة.

على الصعيد الدولي، أثار القرار قلقاً كبيراً بين الدول النامية التي تعتمد على المساعدات الأميركية في مجالات حيوية مثل الصحة، التعليم، ومكافحة الفقر، فهذا الانسحاب قد يخلق فراغاً قد تحاول قوى دولية أخرى مثل الصين أو روسيا ملؤه لتعزيز نفوذها. وعلى الرغم من شكوكي الشخصية في ذلك إلا أنّ القرار قد يؤدي إلى تقويض العلاقات الدبلوماسية مع حلفاء الولايات المتحدة الذين يرون في المساعدات أداةً للتضامن والتعاون الدولي، مما قد يضعف دور أميركا القيادي في العالم ويزيد من التوترات السياسية والاقتصادية على الساحة الدولية.

وعلى الرغم من هذه التأويلات أو تلك، فبناءً على الحجم الحقيقي للمساعدات الخارجية الأميركية، فإنّ تأثير هذا القرار قد يكون أقلّ مما يبدو ظاهرياً، مما يجعله أقرب إلى حركة استعراضية ذات أبعاد سياسية داخلية، وورقة للضغط بشكل مستهدف على دول بعينها. فالمساعدات الخارجية تُشكِّل نسبة صغيرة من إجمالي الميزانية الفيدرالية الأميركية (حوالي 1% فقط)، وبالتالي فإن وقفها لن يكون له تأثير مالي كبير داخلياً، لكنه قد يُستخدم سياسياً لإرضاء القاعدة الانتخابية لترامب التي تعارض الإنفاق الخارجي. 

قرار وقف المساعدات الأميركية سيكون له تأثير كبير على برامج المساعدات والتنمية الدولية في الدول التي أصبحت المساعدات بندًا رئيسًا في موازناتها

أما على المستوى الدولي، فالتأثير الفعلي يعتمد على طبيعة توزيع هذه المساعدات وحجمها، حيث إن الدول والمؤسسات الأكثر اعتماداً عليها ستتأثر بلا شك، فقرار وقف المساعدات الأميركية سيكون له تأثير كبير على برامج المساعدات والتنمية الدولية في الدول التي أصبحت المساعدات بندًا رئيسًا في موازناتها، وباتت هذه المساعدات تشكّل دعماً حيوياً لقطاعات حيوية مثل التعليم، الصحة، والمياه، إضافة إلى دورها في تمويل برامج الاستقرار الاقتصادي ومساعدة اللاجئين، مما قد يُحدث فجوة مالية قد تؤثّر على قدرة الحكومات على تنفيذ مشاريعها التنموية والوفاء بالتزاماتها تجاه الفئات الأكثر هشاشة، مما يزيد من الضغط الاقتصادي والاجتماعي. كما يهيّئ البعض للموافقة على إملاءات ترامب القادمة حتى لو تعارضت مع التوجّهات الوطنية. لكن كثيراً من الدول الأخرى المتلقية للمساعدات بشكل أقل قد تكون قادرة على تعويض النقص من خلال دعم بديل من جهاتٍ أخرى، مما يُضعف التأثير العملي للقرار.

في النهاية، يبقى قرار ترامب بإيقاف المساعدات الخارجية حدثاً مفصلياً يثير تساؤلات حول مآلات السياسة العالمية في ظلّ تحوّلات غير مسبوقة. هذا القرار ليس مجرّد إجراء مالي، بل أداة سياسية قد تُعيد تشكيل علاقات الدول وموازين النفوذ الدولي، فيما تُترك الدول الأكثر هشاشةً أمام تحدٍ جديد للتكيّف أو البحث عن بدائل أو الرضوخ للإدارة الأميركية. ومع ذلك، يبقى التأثير الحقيقي مرهوناً بالمدى الذي ستُترجم فيه هذه السياسة إلى تغييرات عملية، سواء بتأثير إيجابي محدود أو بتداعيات خطيرة تمتدّ لسنوات، بينما يترقب العالم نتيجة اللعبة التي لم تُحسم بعد.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.