زلزال الصورة المفقودة

زلزال الصورة المفقودة

19 فبراير 2023
+ الخط -

اليوم العاشر بعد الزلزال، طلبت مني أمينة مرآة، طلبتها بصمت كمن يطلب شيئاً مستحيلاً أو مخجلاً. كان من الصعب علي في زحمة المأوى واكتظاظه بالعائلات الهاربة من الموت، أن أدبر لها، وفوراً، مرآة.

بأصابعها المرتبكة رسمت لي إطاراً دائرياً بحجم صغير، وقالت: "مراية صغيرة الله يرضى عليكِ بدي شوف وجهي". أجريت اتصالاً هاتفياً ووصلتني المرآة، أمسكتها أمينة وهربت بها نحو النافذة، عادت أدراجها نحو المغسلة، غسلت وجهها مرة وقالت: "لإزالة الغبار وآثار الردم"، ثم مرة ثانية وقالت: "كي أزيح الرعب والخوف عن وجهي"، أما الثالثة فقالت: "سأغسل روحي من الحزن". وبكت. حتى الآن لم تحدق أمينة في مرآتها، خبأتها في عبّها واستسلمت للبكاء، دقائق أعادت غسل وجهها من الدموع وحرقتها، حدقت في المرآة وقالت لي: لقد كبرت مائة سنة.

تهرب النساء في الأزمات المرعبة من صورهن الحقيقية، يلبسن وجوه الشجاعة والقوة والعزيمة، يغلغل الخوف بين الثنايا، في حدقات العيون وعلى الشفاه المتصلبة من شدة الصمت وادعاء القوة، تهرب النساء من دموع الرجال التي يعجزن عن تجفيفها، ويجبن عن ذعر الأطفال بتطمينات واهية.

توزع النساء الأغطية، تقرر سميرة أن الأغطية السميكة ستغطي الأرض كي ترد برودتها عن الأجساد المتعبة، في لفتة ذكية منها، تنادي الأطفال وتقول بصوت صاخب وبفرح مصطنع: "سيختار الأطفال أغطية عوائلهم". تغيّر الجو العام قليلاً، غاب الحزن المجلجل للحظات حين بدد الأطفال وقتهم القلق بالاختيار، لا رسوم ترضي الأطفال على الأغطية، لا ألوان زاهية، هي لعبة التحايل على الزمان والمكان والحالة العامة المجللة بالرعب والترقب، إنه تحايل لتغيير الصورة الثابتة الآن.

 في الأزمات وفي الحروب وفي حوادث تمرد وغضب الطبيعة تتزايد الحاجة لتبديل الصورة السائدة أو التقليدية، والصور الجديدة غامضة ومفقودة لكنها مطلوبة

ثمة صورة مفقودة لكنها مطلوبة الآن وبشدة، لا بد من قهر الموت، ولا بد من إخراج الأطفال من واقعهم المر بلعبة ما، اختار الأطفال أغطية عوائلهم، صدقوا أنهم يملكون خيارات، وصدقوا أنهم قادرين على تقديمها وممارستها، ملأهم الفرح لأنهم اختاروا ما لم يختارونه يوماً، سعة الخيارات والإمساك بها كفيلان بتبديل الصورة القاتمة إلى حيوية إسعافيه ومبهجة.

وتبديل الصور في الأزمات يشبه تبادل الرسائل المشجعة والمطمئنة، لكنها رسائل غير مكتوبة، عفوية ومفتعلة أحياناً وتجريبية بكل ما في التجربة من معنى، لأن المحاولة الأولى قد تخيب، فيستبدل العقل أو العاطفة الصورة المرفوضة بمحاولة جديدة لرسم صورة أكثر فائدة وحيوية وجلباً لراحة البال أو الدعم النفسي، وصور العاطفة أشد تميزاً وتفاعلاً ونجاحاً ومنفعة.

ثمة مطابخ نصبت أدواتها في العراء لتقديم الطعام للهاربين من ويلات الزلزال، تفوح رائحة حساء العدس في المكان، يقول طفل يكره حساء العدس لأمه ممتعضا: "أنا جائع واشتهي الطبخ". يقصد أن الحساء لا يشبع ولا يعتبر وجبة كافية للغداء، تقترب منه السيدة التي تطوعت بالطبخ يومها، تقول له: "الحساء فقط كي تدفأ أوصالك، بعد ما تنهي حصتك من الحساء وتدفأ، سأقلي لك بيضاً طازجاً وشهياً"، يفرح لكن بتردد، ويجيب محرجاً: "أريد بطاطا مقلية".

ترسل السيدة أحد الشباب لشراء كيلو واحد من البطاطا وتدفع ثمنه، تجهز للطفل الجائع وجبته المفضلة، لكنها تناديه وحيدا كي يتناول وجبته في الخفاء عن البقية، وخاصة الأطفال محبي البطاطا المقلية، تنهمر دموعها وتقول: "يا ليتني قادرة على قلي شوال بطاطا، كل شيء مرتفع الثمن وتأمين زيت القلي معجزة".

تبدل تلك السيدة الصورة بشكل مجتزأ، تبدل صورة العجز عن تقديم ما يحبه الأطفال إلى واقع ممكن، لكنه واقع شحيح وضيق، يفتقد إلى العدالة وإلى إمكانية تحقيق رغبات الأطفال عامة.

في الأزمات وفي الحروب وفي حوادث تمرد وغضب الطبيعة، تتزايد الحاجة لتبديل الصورة السائدة أو التقليدية، والصور الجديدة غامضة ومفقودة لكنها مطلوبة، تولد من رحم المأساة، تصنعها العاطفة بإرادة مبدعة، ومن قال إن المنطق هو سيد الأحكام؟ وخاصة حين تفرض الأرض الفائرة والمتذمرة منطقها المرعب والمدمر.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.