زلزال الدكتور زغلول!

زلزال الدكتور زغلول!

25 مايو 2021
+ الخط -

هل صادفك هذا المشهد ذات مرة: رجل عجوز شكله محترم وطلعته بهية من النوع الذي يوصف عادة بأنه بركة، المفروض أن تراه خاشعاً في مسجد أو متأملاً في بلكونة أو حتى متبرماً في قهوة معاشات، لكنك على العكس تراه مرغياً مزبداً يقف في الشارع يشتم المارة و"يزقُلهم" بالطوب، والناس من حوله ما بين ضاحك في شماتة وعدم توقير، أو متألم لأن الرجل لم "يحفظ مركزه"، أو سائل له الله المغفرة ولنفسه حسن الختام؟

ماذا تفعل إذا شاهدت هذا الموقف ولكن في قناة فضائية هذه المرة، وكان بطله الدكتور زغلول راغب النجار نجم نجوم الإعجاز العلمي الذي كان ضيفا على برنامج (إضاءات) مع المذيع السعودي المتميز تركي الدخيل والذي كان في قمة الأدب مع الرجل، لم يستفزه أو يضايقه أثناء الحوار، وبرغم ذلك اندفع الدكتور زغلول ليصف من يعارضونه بأنهم جهلة وشياطين، هكذا من الباب للطاق، وعندما ذهل تركي الدخيل من لهجته وراجعه فيها، أراد الدكتور زغلول أن يكحِّلها فعماها عندما قال إنه يقسم من يعارضونه إلى ثلاث أقسام: القسم الأول علماء يجلهم ويختلف معهم حتى لو كان لهم سقطات، والقسم الثاني ـ وأنا أقتبس بالنص ـ هم "جهلة وشياطين.. ينبحون كما تنبح الكلاب ولا أرد عليهم"، ولقد ذهلت وأنا أستمع مثلما تذهل أنت الآن من أن تكون هذه لغة عالم في الثانية والسبعين من عمره المفروض أنه يبشر بالإعجاز العلمي في القرآن بينما لم يتمكن القرآن من تهذيب لسانه وصونه عن شتم من يختلفون معه بلغة لا نستخدمها حتى نحن الذين لا نحاضر في الإعجاز العلمي.

أراد تركي أن يمنح الدكتور فرصة للتراجع والإعتذار عما قاله فقال له: كيف تصف معارضيك بهذا الوصف ولاتختلف معهم كما تختلف مع القسم الأول، فأبى الدكتور واستكبر أن يتخذ سبيلاً للتراجع أو حتى التخفيف مما قاله فقال له بيقين: "هؤلاء هم جيوب لليسار والشيوعية اتخذوا من العداء للإسلام سبيلا لهم، وكل منهم سفيه يريد أن يتطاول عليك ويسبك فكيف تختلف معه، هؤلاء أنا لاأناقشهم، الذي يريد مني أن أناقشه يذهب إليّ أنا لا أذهب إلى أحد"، فأذهلني مجدداً أن الدكتور زغلول لايعتنق منهج الله عز وجل بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي أحسن، بل يؤمن بمبدأ "اللي عايزني يجيني يجيني أنا ماباروحش لحد".

أخذت أحاول أن أستوعب ماقاله بينما تتداخل وتتصارع في ذهني عشرات العبارات والصور لأعلام وأئمة الإسلام الذين أرسوا قواعد الشريعة ولم يدع أي منهم أن ما يحمله هو الحق وما يقوله غيره الباطل، تذكرت عبارات جعلت لشريعتنا الإسلامية تلك القيمة والقدرة على التأثير والتغيير في كل زمان ومكان، مثل "إن هذا القرآن حمال أوجه"، "كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر"، "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، " إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حُمِل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر"، تذكرت الفقيه ابن عابدين في سفره (الحاشية) وهو يقولها قاطعة صريحة: "لا ينبغى أن يكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان فى كفره خلاف ولو كان رواية ضعيفة".

أنت تعتقد الآن أنني أسخر لكنك تنسى أن منطقي المتهافت هذا هناك أناس يؤمنون به ويحيون له ويعيشون من أجله بفضل ما يقوله الدكتور زغلول النجار

تذكرت ما هو أهم من كل ذلك، ألا وهو فعل سيد الخلق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء فى الحديث الصحيح أنه نهى الصحابى بريدة الذي أمّره على سرية أن يقول للأعداء عندما يحاصرهم أنه ينفذ عليهم حكم الله، وقال له صلى الله عليه وسلم: " فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ". تذكرت سيدنا عمر بن الخطاب عندما كان كاتبه يكتب بين يديه مرة فكتب " هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر"، فنهره وقال له "لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب". ـ انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين الجزء الثانى للعلامة ابن قيم الجوزيةـ.

قارنت بين الأحكام الراسخة التي يطلقها الدكتور زغلول بتكفير هؤلاء وتجهيل وتسفيه أولئك، وبين ما قاله الإمام الشاطبي في كتابه (الاعتصام) وهو يناقش الفرق الضالة والمبتدعة فينقل عن سلفه أبي حامد الغزالي قوله: "أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهل أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها" ويعلق الشاطبي ـ انظر صفحة 490ـ على هذه الكلمات الجليلة المستنيرة بكلمات أشد استنارة حيث يقول: "هذا هو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية فالواجب تسكين الثائرة ما قُدِر على ذلك".

قارنت بين العنجهية التي تحدث بها الدكتور زغلول في برنامج يراه الملايين يتحدث فيه عن حسد الناس له وحقدهم عليه وكأنه أتى بما لم تأت به الأوائل وبين تواضع سيدنا أبي بكر الذي كان يقول "لو أن أحد قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله"، قارنت بين حديثه عن ما يقوله كأنه الحقيقة المطلقة وبين ما يقوله الإمام مالك عندما عرضت عليه مسالة ما فقال: "اليوم لى عشرون سنة وأنا أفكر في هذه المسألة "، أو ما روى عن الإمام أحمد بن حنبل عندما قال: "ربما مكثت في المسألة سنين قبل أن أعتقد فيها شيئا "، أو ما روى عن الإمام الشافعي أنه ظل ثلاثة أيام بلياليها سهران مكدودا يفكر في مسألة فقهية، هذا والأمر متعلق بمسائل فقهية فما بالك بإصدار أحكام بتكفير أناس وتجهيلهم وجعلهم أعداء للإسلام، كما قال الدكتور زغلول بالنص، في حين يقول الفقيه أبو حصين معلقا على المتسرعين في إصدار الأحكام "وإن أحدهم ليفتى في المسألة، لو وردت في عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر"، انظر للاستزادة كتاب (القرآن والسلطان) للأستاذ فهمي هويدي.

قارن كل هذا وهو يأتي من علماء لم يأت في الإسلام من هو مثلهم أو يدانيهم، بالدكتور زغلول النجار وهو يتحدث في قضية خلافية شديدة الخطورة على الإسلام نفسه، يجادله من جادله فيها بأنه من الخطورة على كتاب الله أن نقرنه بنظرية علمية قد تتغير غدا أو بعد غد، بعد أن نكون قد ربطناها وهي المتغيرة بكتاب الله الثابت، فنكون قد أسدينا أكبر خدمة لأعداء الإسلام وأسوأ صنيع لكتاب الله. وهؤلاء وأنا منهم نريد أن نفهم كيف بنى الإسلام أقوى امبراطورية في العالم دخل فيها الملايين في دين الله عن حب واقتناع وساهموا في بناء واحدة من أعظم الحضارات في تاريخ الكون واكتشفوا للبشرية أعظم اكتشافاتها في الطب والكيمياء والفلك والرياضيات دون أن يقال لأحدهم أن الآية كذا بها الإعجاز العلمي التالي أو أن الحديث كذا به الإعجاز العلمي العلاني، فكيف حالنا اليوم ونحن نقتني الكتب المتوالية للدكتور زغلول عن الإعجاز العلمي ونحن لم نقدم للعلم شروى نقير.

إن الدكتور زغلول الذي لا يتقبل أي اختلاف معه في الرأي لا يعلم أن ظاهرة نجاحه أصبحت دليلاً خطيراً على الحال المؤسفة التي وصلنا إليها كمسلمين نتحدث عن العلم في كتاب الله أكثر مما نكتشف العلم في أرض الله، نسعى لإدخال الخواجات في دين الله دون أن نقيم مقاصده حق إقامتها في بلادنا التي لا يخفى حالها عليك. إن البعض من محبي الدكتور زغلول يقسم أنه أدخل آلاف الأمريكان والأوروبيين إلى دين الله أفواجا، وهو أمر سنصدقه ونحمده له حتى لو كان ذلك لم يرفع من شأن ديننا مثقال ذرة خيراً نره، ولعل الله يبارك في جهوده الكريمة فينجح في إدخال جورج دبليو بوش أو كونداريزا رايس في الإسلام فيكفي المؤمنين شر القتال، ويعم السلام ربوع المعمورة والمنتزه وتستمر أمريكا في حكم العالم ولكن مع إضافة هلال كبير إلى نجومها الكثيرة في العلم الأمريكي، وليس ذلك على الله ببعيد.

فإذا كان جل وعلا سيهلك أمريكا ببركان ضخم كالذي يبشرنا به الدكتور زغلول ليحرق الأخضر واليابس ويعيد أمريكا عشر سنوات إلى الوراء، مادامت معجزة كهذه ستتحقق فليس بكثير على الله أن ينصر الإسلام بأحد الجورجين جورج بوش أو جورج قرداحي. وحتى يحدث ذلك علينا أن نتحلق أمام شاشات التلفاز لكي نستمع إلى الدكتور زغلول النجار وهو يحدثنا عن الزلازل التي ستبيد أوروبا والبراكين التي ستمحق أمريكا، ونحن نحوقل ونبسمل كأن ذلك يحدث في كرة أرضية غير التي نحن عليها، وكأننا لسنا مشمولين بسنن الله في الكون ولا بالكوارث الطبيعية التي يعاقب الله بها المقصرين والضالين من عباده، وبالتالي فنحن لسنا مهددين بأن يبتلينا الله بكارثة طبيعية عقاباً لنا على سكوتنا على انتهاك حرماته وسحق الضعفاء من عباده وتعايشنا مع الظلم والفساد وتحويلنا دينه إلى طقوس للدروشة أو مقاصل للتكفير وتفجير الأبرياء.

لسنا مهددين بكل ذلك، فنحن بحمد الله نستمع إلى الدكتور زغلول أهوه، وأمامنا المكسرات والفاكهة والقطايف وغيرها من مستلزمات الشهر الفضيل، ولساننا يلهج بالشكر لله الذي رزقنا كل هذه الأطايب وفوقها الدكتور زغلول الذي يشعرنا أن هناك أملاً في أن نقهر أمريكا ونجيبها سابع أرض، لأنها إذا كانت تمتلك أسلحة العلم والتكنولوجيا والحضارة والمجتمع المدني فنحن بعوننا الله لدينا جنود الله التي سيسخرها لمصلحتنا خاصة ونحن بالصلاة على النبي عباده الصالحون لا ترى بيننا مظلوما أو فقيرا أو جائعا أو محروما، ألا تنظر إلى شوارعنا وهي ملأى قبل الإفطار بقراء المصاحف في المواصلات العامة، ألم تدخل إلى مصالحنا الحكومية فوجدت الموظفين كأنهم حُمُرٌ مُستنفرة فرّت من قسورة، لا هم لهم إلا الصلاة والذكر وتعطيل مصالح الناس.

ألم تر إلى حكامنا وهم لايفعلون فعلاً إلا إذا تحروا فيه أن يكون بموافقة شيخ الازهر ومفتي الديار حتى لايكون فيه شيئ يغضب الله، حتى الراقصة عندنا لاتدخل على المسرح إلا وقد قرأت الفاتحة ولاتخرج منه إلا لتقول لمن يسجل معها في برنامج تلفزيوني "الحمد لله ربنا وفقني"، ألا ترى لاعب الكرة وهو يشد زميله من الفانلة ويكسره كسرة موت ويسبه ويلعنه وعندما يطردونه من الملعب لايبدأ كلامه مع مراسل القناة الرياضية إلا بـ "بسماحمحيم"، ألا ترانا جميعا نطرمخ على التمديد والتوريث والتزوير والفساد والظلم وأكل السحت ونحن نرد ذلك إلى حكمة إلهية أقوى مننا جميعا فنقول "ربنا عايز كده"، هل بعد كل هذا نشك للحظة أن كل ما يصيب العالم من كوارث سيستثنينا نحن وسيمحق أمريكا وإسرائيل وأوروبا والنرويج وبنما والإكوادور وغيرها من الدول المارقة عن دين الله.

أنت تعتقد الآن أنني أسخر لكنك تنسى أن منطقي المتهافت هذا هناك أناس يؤمنون به ويحيون له ويعيشون من أجله بفضل ما يقوله الدكتور زغلول النجار، الذي سأله تركي الدخيل سؤالا ذكيا حول ما إذا كان قانون الطوارئ المطبق في البلاد العربية هو الذي جعله يتجه إلى هذا المجال بدلا من الاصطدام بالحكومات العربية، فتوقعت أن ينفي الدكتور زغلول التهمة بشراسة، لكنه ضحك وقال له "لا أريد أن أدخل في دوامة العنف التي دخلت فيها في شبابي".

هكذا يبسط الأمر دون أن  يفكر ولو لمرة في ما الذي يجعل الحكومات العربية التي لم يحارب أحداً دين الله كما حاربته، ولم يضل عن سبيل الله كما أضلت تفتح له شاشات تلفازها على مصارعها وتفسح له الصفحات الشاسعة في صحفها الحكومية لكي يقول ما يقوله، بينما تقصي عنها كل عالم مجدد مجتهد معارض للإفك والإثم والفساد والظلم،  لم يفكر وهو العالم الذي قد لا ننكر أنه عالم جليل في الجيولوجيا، أن ما يقوله ويبشر به قد يكون أمرا مفيدا لأقوام راسخين في العلم ثابتين في الإيمان، أو حتى مفيدا لإدخال غير مسلم في دين الله، لكنه سيساهم بنفس القدر في الإمعان في تجهيل الناس الذين كلما سمعوا كلامه لم يزدادوا رغبة في التعلم والأخذ بالأسباب بقدر ما ازدادوا رغبة في انتظار الصواعق المرسلة والبراكين الساحقة كي يريحهم الله مما هم فيه.

أخيراً يهمني أن أقول أنني لا أجرؤ أنا ولا غيري في أن نطالب بإسكات الدكتور زغلول أو إخماد صوته أو منعه من الحديث في أي موضوع يرغب، فقط نناشده الله أن يدرك خطورة ما يتحدث فيه على عقول الناس الذين اتخذوا من كلامه مخدرا يساعدهم على مزيد من السبات العميق، نناشده الله أن يستغل شعبيته فيما ينفع الناس أكثر، في دعوتهم إلى التمرد على الظلم والفساد والإفقار، في دعوتهم لكي يكون كل منهم بركانا ضد الظلم أو زلزالا بوجه الفساد أو عاصفة ضد الجهل بدلا من أن يقضي العمر جاهلا خانعا ذليلا في إنتظار البركان أو الزلزال أو "العاسيفة".

هل تراجع نفسك يادكتور زغلول أم تستمر في اتهام من يختلفون معك بأنهم من جيوب اليسار وأعداء الإسلام، وقد علم الله أننا نحبه ونحب دينه، ولأنه أعلم منا بذلك فإنا نشكوك إليه، وهو أعلى وأعلم؟

...

نشرت هذا المقال في صحيفة (الدستور) في أكتوبر 2005 وتذكرته قبل أيام حين وجدت على الفيس بوك تدوينة رائجة تروج لبضاعة الدكتور زغلول القديمة التي لا تزال تجد جمهوراً جديداً في أوطاننا التي زادها هذا النوع من التدين خبالاً وفقراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.