زلزال إسطنبول... بين صفحة الرواية وهول الهزّة
دويٌ مفاجئٌ اجتاح الصمت الذي تلبّد في شقتنا بالطابق الثالث في منطقة العمرانية في إسطنبول. انتفض قلبي قبل أن يُدرك عقلي ما يجري، إذ كنت قد استيقظت متثاقلة عند الساعة التاسعة والنصف في صباح يوم عطلة رسمية بتركيا، يوم خال من الانشغالات، إذ شاركتُ صديقاتي، شُورَى وعسَل وبيضاء، فطورنا التركي المُعتاد (جبن وزيتون وطماطم طازجة، خبز دافئ وعسل أبيض) في الصالون عند الساعة الحادية عشرة، مع ضحكات تنساب كالماء في ردهات الشرفة المفتوحة على نسيم الصباح.
لم تكن بيضاء من ساكنات إسطنبول، فقد كانت ضيفة عزيزة جاءت من مدينة دنيزلي لتقضي معنا يومين للسياحة. أحبّت دفء صحبتنا، وتمنّت أن تعيش لحظات استجمام بسيطة في المدينة التي لا تنام.
بعد الفطور، تخلّيت عن خرير الأحاديث وجلبة المائدة، وانتقلتُ إلى غرفتي. أعددتُ فنجان قهوتي الفرنسية، ووضعت بين يدي رواية تركية لطبيب حاذق يحكي قصة تحديه لصعوبات الحياة، كنت استعرتها قبل يوم من صديقتي شورى لأقرأها على ضوء النهار. وما إن تمدّدت على السرير، وارتشفت رشفةً تعبقُ برائحة البن، حتى بدأت رجفة عنيفة؛ شعرت معها بأنّ الأرض تحتنا تستفيق من سباتها، وأدركت أنّ هزة زلزالية قد بدأت تسرق الهدوء من أضلاعنا.
نزلت من السرير بقلق، وارتديت حجابي بسرعة كمن يستعدّ لأمر جلل، وهرعت إلى باب الشقة. بدا الدرج يرج ارتجاجًا وكأنه سينطوي تحت وقع أقدامنا. فتراجعت إلى الداخل، حيث ملاذنا الوحيد، وحيث أسرّتنا المتقابلة في نفس الغرفة. جلسنا هناك منحنيتين على سجاد الغرفة، أنا وشورى، متشبّعتين بقناعة واحدة: "هذا قضاءٌ وقدرٌ… ولا نجاة إلا بإرادة الله". استمرّ البيت في اهتزازه لفترة بدت لنا دهراً، وكانت صرخاتُ عسل لا تزيد من رنين الوجع إلا ثقلاً. كيف لا، وكانت أصغر بنت بيننا، ولأوّل مرّة تختبر زلزالًا كهذا.
التضامن الإنسانيّ هو ملاذنا الأول حين تنهار مساحات الأمان
عقب توقف الهزّة، خرجنا إلى الشارع الذي احتضننا وجيراننا، برفقة وجوه الأطفال المُرهَقة بالذهول. ارتعشت أطرافي أكثر من ساعة ونصف؛ فقد لمست للمرّة الأولى هشاشةَ الحياة بصدق لم يسبق له مثيل. لا شيء كان يخطر ببالي حينها إلا أهل غزّة، الذين جلست أتأمّل طويلاً في حالهم: كيف ينامون ويستيقظون على دوي القصف منذ أكثر من سنة ونصف، بلا أمان ولا درع من رعب يعاودهم كلّ لحظة. شعرت بأنّ الروح التي تهتزّ تحت أقدامنا تتقاسم عتمتها مع أرواح تنبض هناك بهدوءٍ قاتم. فعزمتُ أن يظلّ صدى تردداتنا جسرًا خفيًّا يربط بين قلبين لا يعرفان الاستسلام، إنما يستيقظان دائمًا على وعد بالحياة رغم كلّ اهتزاز.
وحين لم نستطع العودة إلى شقتنا، اتفقنا على الانتقال إلى منزل آخر أكثر أمناً بجانب صديقاتنا التركيات. هناك، ضمَمنا بعضنا من جديد، وتبادلنا قصص رعبنا، وجلسنا طوال الليل نراقب تردُّدات الزلزال في جوّ يعمّه الحسّ الفكاهي الذي كنا نتقاسم فيه ذكريات لا تُنسى، تلك القصص التي جمعتنا في أحلك الأحوال.
في هذا اليوم المدوي، تعلّمت أنّ الإنسان مهما اعتقد أنه قوي وآمن، لا يملك حتى أن يضمن بقاء نفسه لدقيقة أخرى، وأنّ التضامن الإنسانيّ هو ملاذنا الأوّل حين تنهار مساحات الأمان، وأنّ الامتنان على أمنٍ بسيط قد ينقذنا من يأسٍ عميق. فلتكن قصتنا هذه صرخة في وجه الغفلة، أن مصيرنا واحد تحت رحمة خالق حكيم، وأنّ أجمل ما نصنعه في هذه الحياة هو أن نمدّ يدَ العون قبل أن يخطفنا اهتزاز لا يسمعه أحد.