زلة محامٍ شاب تُنهي حلمه وشطحات الكبار تُغتَفر
في مشهد يعكس حجم التناقضات الصارخة بين العقاب والمساءلة، وجد محامٍ مغربي متمرّن، يُدعى أمين نصر الله، نفسه أمام قرار قاسٍ بالتشطيب النهائي من هيئة المحامين بالدار البيضاء، بعد واقعة شجار داخل المحكمة الابتدائية بعين السبع. وبينما تتعالى أصوات مطالبة بالمحاسبة في قضايا أكبر وأكثر تأثيراً، يبدو أنّ زلة شاب متمرّن أصبحت عنواناً صارخاً لإثبات قوّة السلطة المهنية، في وقت تتوارى فيه "زلات" أعتى المسؤولين بلا محاسبة.
قضية أمين نصر الله: حلم قضت عليه لحظة غضب
أمين نصر الله، شاب من بين الآلاف الذين كافحوا بشغف رغم العراقيل والتحديات لتحقيق حلمه بالانخراط في سلك المحاماة. بعد اجتيازه امتحان المحاماة بنجاح في يوليو/تموز 2023، التحق بصفوف المتمرنين، حاملاً معه آمالاً كبيرة ليجد نفسه فجأة في قلب عاصفة مهنية لا ترحم. القضية بدأت حين نشب شجار بينه وبين أحد زملائه في المحكمة. وبدلًا من معالجة الأمر بمرونة تناسب طبيعة الأخطاء البشرية، صدر قرار التشطيب عليه من الهيئة، وتأكّد الحكم في محكمة الاستئناف. قرارٌ جاء ليُنهي مستقبله المهني دون الأخذ بالاعتبار خلفيات الواقعة أو الظروف التي أحاطت بها.
العدالة المفقودة: أين التوازن في المحاسبة؟
إنّ قرار التشطيب على أمين نصر الله يطرح سؤالًا ملحًا حول مدى التناسب بين "الجريمة" والعقوبة. صحيح أنّ سلوك المحامي المتمرّن قد تجاوز المعايير المهنية في لحظة انفعال، إلا أنّ التشطيب النهائي يبدو بمثابة عقوبة مفرطة، لا تترك مجالًا للتأديب أو الإصلاح. أفليس من واجب المؤسسات المهنية أن تكون حاضنة للتعلّم والتهذيب بدلًا من أن تصبح منصات لإنهاء الطموحات؟
يبدو التشطيب النهائي بمثابة عقوبة مفرطة، لا تترك مجالاً للتأديب أو الإصلاح
الأكثر إيلامًا في هذه القضية، هو أنّ هذا القرار يأتي في سياق اجتماعي مغربي شهد العديد من القضايا التي أثارت جدلًا واسعًا حول نزاهة المؤسسات، من دون أن تتحرّك عجلة المحاسبة بنفس الحزم والسرعة. هل تصبح القوانين أداة انتقائية تُطبّق بصرامة على الضعفاء، بينما تلتف حول الأقوياء؟
قرار التشطيب: رسالة خفية لتكريس نظرية الشيخ والمريد
حقيقة، إنّ قرار التشطيب على هذا المحامي المتمرّن، لا يمكن عزله عن سياق أوسع يتغلغل في الثقافة المهنية المغربية، حيث تسود نظرية "الشيخ والمريد" للأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي. هذه النظرية، التي تقوم على ترسيخ الهيمنة المطلقة للكبار في مواجهة الشباب، تبدو وكأنها رسالة مبطّنة مفادها أن المتمرنين ليسوا سوى تلاميذ يجب أن يخضعوا، لا أن يخطئوا أو يجادلوا. في هذا النموذج، تُمارَس السلطة بأسلوب يُقصي الأصوات الشابة ويُخضعها لمنطق التبعية، من دون اعتبار لتحديات المرحلة أو الحاجة إلى توفير مساحات آمنة للاستفادة والتعلّم.
إنّ التعامل مع خطأ هذا المحامي المتمرّن بعقوبة بمثل هذه الحدة يشير إلى أنّ المؤسسة لم تنظر إليه كشريك في المستقبل المهني، بل كطرف يُفترض أن يُذعن بلا نقاش. حيث كان بالإمكان أن يُنظر إلى خطئه كفرصة لإثبات أنّ المهنة قادرة على الإصلاح والاحتواء، لا على الهيمنة والإقصاء. لكن الرسالة التي وصلت هي أن من يجرؤ على كسر قواعد اللعبة (أعراف الخضوع المهنية)، حتى في لحظة انفعال إنساني، سيلقى حتفه المهني بلا تردّد.
تُمارَس السلطة بأسلوب يُقصي الأصوات الشابة ويُخضعها لمنطق التبعية
وهنا يبرز دور النقيب، رأس هرم السلطة في هيئة المحامين، والذي كان من المُفترض أن يكون "أبًا للجميع"، يُدافع عن حقوق جميع المحامين، وخاصةً الشباب منهم. لكن في قضية أمين نصر الله، يبدو أنّ النقيب قد غضّ الطرف عن مبدأ العدالة والإنصاف، مرجّحا الانحياز للسلطة على حساب مستقبل شابٍ طموح. فبدلًا من أن يلعب دور الوسيط المُصلح، ويمنح المحامي المتمرّن فرصةً ثانيةً لإثبات نفسه، اختارَ المصادقة على قرار التشطيب دون التمعّن في حيثيات القضية أو مُراعاة ظروفها. فهل يُعقل أن يتحوّل النقيب، رمز العدالة داخل الهيئة، إلى أداةٍ لتكريس الظلم وإقصاء الشباب؟ وهل يُمكن تبرير هذا القرار بحجة الحفاظ على هيبة المهنة، بينما تُهدر كرامة ومستقبل محامٍ شابٍ بسبب زلةٍ غير مقصودة؟ إنّ صمت النقيب عن هذه المظلمة، أو ربما مُباركته لها، يُثير تساؤلاتٍ مُقلقةً حول حقيقة دوره في حماية حقوق المحامين، خاصةً أولئك الذين لا يملكون "ظهرًا" يحميهم من تعسّف الكبار.
هذا النهج لا يخدم إلا تكريس ثقافة الهيمنة التي تجعل المهنة مجالًا مغلقًا على نخبة تحكمها عقلية العقاب، بدلًا من التحديث والاحتواء. فإلى متى ستبقى المؤسسات المهنية رهينة هذا التفكير التقليدي الذي يخشى التغيير ويُقصي الكفاءات الشابة الطموحة؟
معاناة شخصية تعكس أزمة أوسع
لم يكن قرار التشطيب مجرّد عقوبة مهنية؛ بل كان حكمًا بالإعدام على طموحات شاب استثمر سنوات من الكفاح لتحقيق حلمه. نصر الله، الذي اقترض المال لإكمال دراسته والانخراط في هيئة المحاماة، وجد نفسه فجأة في مواجهة العدم واليأس. "لم يعد للحياة معنى بعد هذا القرار"، هكذا كتب في تدوينة مؤلمة على صفحته، تعكس حجم الظلم الذي لحقه.
إلى متى سيبقى النظام المهني المغربي متسامحاً مع شطحات الكبار، وقاسياً على زلات الصغار؟
لكن، قضيته ليست مجرّد حالة فردية؛ بل تعكس أزمة أوسع في النظام المهني بالمغرب. كيف يمكن أن تُستعمل القوانين كأداة لإقصاء الكفاءات الشابة بدلًا من تمكينها؟ وأين هو الدور التربوي للمؤسسات المهنية في التعامل مع الأخطاء البشرية؟
رسالة إلى الضمير المهني
إنّ قضية أمين نصر الله هي دعوة للتأمل في طبيعة العدالة التي نسعى لتحقيقها. فهل الهدف من العقوبات المهنية هو فرض السلطة فقط، أم إنها تهدف إلى الإصلاح وبناء جيل من المهنيين القادرين على التعلّم من أخطائهم؟ إذا كان الخطأ جزءًا من الطبيعة البشرية، فإنّ العدالة تقتضي أن يُعامل هذا المحامي الشاب بالرحمة والإنصاف، خاصةً إذا كان مستعدًا لتحمل مسؤولية تصرّفه.
في الختام
بينما يستمر أمين نصر الله في معركته لاستعادة حقه، تظل قضيته رمزًا لواقع مهني يحتاج إلى مراجعة جذرية. فقرارات التشطيب القاسية ليست سوى انعكاس لتوازنات مختلة، حيث يتحمّل الضعفاء أخطاءهم بأقصى العقوبات، بينما يُسمح للأقوياء بتجاوزاتهم بلا حساب.
و"شطحات الكبار" هذه تتخذ أشكالًا مُتعدّدة، منها ما نراه من تراشقٍ وتبادلٍ للاتهامات بين المسؤولين أنفسهم، لا سيما داخل قبّة البرلمان، مما يُحوّل المؤسسة التشريعية إلى حلبة صراعٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن هموم المواطن. ومنها ما يطاول القضاء، حيث تُكشف بين الفينة والأخرى قضايا فسادٍ وابتزازٍ وتزويرٍ، تورّط فيها محامون وقضاة، مستغلين مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية على حساب العدالة. ناهيك عن تقارير تتحدّث عن استغلال النفوذ والمنصب في مجالاتٍ أخرى، من دون أن تطاولهم يد المُحاسبة بنفس الصرامة التي تُطبّق على زلات البسطاء.
إنّ العدالة لا تتحقّق بالتشديد الأعمى، بل بالإنصاف الذي يوازن بين العقوبة والإصلاح. في النهاية، سيظل السؤال قائمًا: إلى متى سيبقى النظام المهني المغربي متسامحًا مع شطحات الكبار، وقاسيًا على زلات الصغار؟