زاديج وسميرة (2/2)

زاديج وسميرة (2/2)

30 اغسطس 2021
+ الخط -

برح الخفاء بعد غشاوة طالت، وتزوجت سميرة من أوركان -قريب أحد الوزراء- تاركة زاديج يتقلب على جمر الغضى، وقد حاول -في مكابرة- لملمة جراحه ومواصلة دربه، وليداوي آلامه بالتي كانت هي الداء تزوج أزورا.

اختارها بسيطة لا تعرف من زخارف الحياة شيئًا، أرادها معزولة عن بريق المشاعر والأهواء وفتن الدنيا، غير أن حديثًا طويلًا اعتمل في صدره، وبعد مداولات اطمأن إلى أنها سميرة وإن كانت في إهاب أخرى، فكلهن بالمحصلة نساء وطريقة تفكيرهن لا تختلف اختلافًا كبيرا.

في ليلة تاه قمرها بين غيوم كثيفة، بثّ شكواه إلى صديقه كادور، فأشار عليه بحيلة اقتبس خيطها الرئيس من سيدنا جحا -مدّ الله في حُسن سيرته- مفادها أن يتظاهر بالموت، وأن تُمتحن أزورا، هل تحفظ عهده وتصون عشرته؟ أم تسعى -والحي أبقى من الميت، ولا حرج عليها- إلى فصل جديد من حياتها في ظل رجل آخر؟ تُرى من يكون؟!

وليعجب معي القارئ الكريم -إن كان لديه متسع من الوقت للعجب- في أفكار عمنا زاديج؛ فأي فلسفة تلك؟ غلب نُصيب بن رباح في قوله (أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ فإن أمُت/ فيا ويحَ دعدٍ من يهيمُ بها بعدي)، وقامت قيامة عبد الملك بن مروان حين سمع بطموح نُصيب، وقال لو كنت مكانه لقلت (أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ فإن أمت/ فلا صلحت دعدٌ لذي خِلةٍ بعدي)؛ أهذا شغلك الشاغل؟ على كلٍّ فإن الفاضي يعمل قاضي، واتفق أن لعب صديقه -صاحب الفكرة الجحاوية- الدور، على أن يتقن التقمّص ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

أشِيع في بابل أن زاديج مات، وفرح زاديج بموته فرحًا لا يُوصف، استبدت به الغبطة استبدادها بأحمد حسن الزيات يوم قرأ نعيه في الجرائد، كفّنوه وأدرجوه في نعشه فلما غاب وخاصةَ أصدقائه عن العيون أطلقوه، وراقب مسار الأحداث من وراء حجاب، في حين تزلَّف كادور إلى أزورا -ودم زاديج لم يبرد بعد- فتمنَّعت ربع ساعة أو يزيد قليلًا، ثم فتحت مغاليق قلبها للوافد الجديد، واشترطت عليه أن يعطيها وقتًا تعيد فيه ترتيب فكرها وتهيئة نفسها وتستعيد ما انفرط من شبابها بين يدي المرحوم!

اكتشفت استارتيه نيّة زوجها مؤبدار، وأرسلت للتعيس أن اهرب وانفد بجلدك، لم يكذب الخبر وأطلق ساقيه للريح

قلبي عندك يا زاديج! جلس التعيس يردد مع نزار قباني "إن كل امرأة أحببتُها قد أورثتني ذبحة في القلب"، وصاحبه يجبر بخاطره ويواسيه ويلعن اللحظة التي أغرته بامتحانها، وعقد الفيلسوف عزمه على أن يغادر الديار ويبحث عن حظه في أرض جديدة. اختلى بنفسه مدة في الغابات، جدّد في نفسه الأماني وقال لها على سبيل التشجيع وطاف بلاد الله.

في بابل، توسّم الملك مؤبدار الحكمة تطل من عيني زاديج وبها تتّشح كلماته، احتال الملك وأغدق على صاحبنا تقديرا واهتماما استولى بهما على عقله، وانضم زاديج بعد لأي إلى بطانة مؤبدار، وقد يكون حتف المرء في سعيه، إذ إن الملكة استارتيه -أم عيون كحيلة- وقعت في حب زاديج، وسدّ عليها حبه مسد المبتدأ والخبر والمباني والمعاني والبديع. اشتمّ الملك رائحة هذا الغرام واستشعر الحرج، أبصر يومًا نعال الملكة فرآها زرقاء اللون، ومثلها نعال زاديج، فرسخ في ذهنه أن النعال على ألوانها تقع، وشاهد قبعة جلالتها صفراء فاقعا لونها تسر الناظرين وقبعة بسلامته نفس الذات نفس؛ فزاد ذلك عنده الطين بلة ولعب الفأر في عبّه بوتيرة أسرع؛ فقرر أن يريق الدم على جوانب شرفه الرفيع وأن يغسل عاره.

اكتشفت استارتيه نيّة زوجها مؤبدار، وأرسلت للتعيس أن اهرب وانفد بجلدك، لم يكذب الخبر وأطلق ساقيه للريح، لكن حظه السيئ مع بنات حواء لم يأتِ بعد فصله الختامي، وظل يتعثر في أذياله تعثر أبي القاسم الطنبوري في شؤم حذائه، ونسفت المرأة فلسفة زاديج وشرّدته في بلاد الله، ولم تترك له لا بلح الشام ولا عنب اليمن!

القصة فلسفية تفتح آفاقًا شتى وتقوم على مقاربة: هل الإنسان مسيّر أم مخيَّر؟ هل المرء ريشةٌ في مهب ريح القدر؟ وهو -وإن كان سؤالًا مغلقًا- قديم متجدد، ناظر المعتزلة فيه وأطالوا النفس، وتنازعته فرق الجبرية والقدرية وغيرهم، وقدّمها طه حسين مترجمة للمرة الأولى عبر جريدة "الكاتب المصري"، في مايو/أيار 1960، قائلًا "وقد قرأت هذه القصة مرات توشك أن تبلغ عشرًا، وأكبر الظن أنني سأقرأها وأقرأها، وقد وجدت فيها -وسأجد- متعة العقل والقلب والذوق؛ فإذا قدمتها إلى القراء فقد آثرتهم بما أوثر به نفسي، ولم يظلمك من سوّى بينك وبين نفسه".

اللافت في القصة -فضلًا عن فلسفتها ورسائلها الضمنية- أن فولتير نشرها -بادئ الأمر- غفلًا من اسمه، خشية أن يزيد الخلاف المشتعل أصلًا بينه وبين الكنيسة، لعل من لم يعرف فولتير يظن القصة بتمامها من بنات خياله، لكن قراءة سيرته قد تقود إلى أنها من بنات تجاربه ومشاغباته، إذ إن الرجل كان قد شقط الماركيزة الأرستقراطية السنيورة دي شاتليه من زوجها الوجيه ريشليو، وطاف بها أرجاء فرنسا 15 عامًا، فلما قهرته الشيخوخة تركته الحسناء غير آسفة عليه لترتمي في أحضان الحياة، واستبدلت به الشاب الماركيز دي سان لامبير، وذاق فولتير من كأس المرار، والزمن دوار!

دلالات