زاديج وسميرة (1/2)

زاديج وسميرة (1/2)

24 اغسطس 2021
+ الخط -

"الحب كله حبيته فيك، الحب كله"، الله يا ست! يقص علينا عمنا فولتير واحدة من قصصه الخالدة، شدني إليها أكثر ما شدني أن أحداثها وقعت قديمًا في أرض العراق، وللعراق في نفوس كثيرين -أدخِل نفسي في عِدادهم- جلال لا يُضاهى، اختار لها اسم زاديج، وهو فيلسوف بابلي ذائع الصيت أشهر من زَها حديد وجميل صدقي الزهاوي مجتمعيْن، يتحاكى أهل بابل بسعة علمه وقوة حافظته وسرعة بديهته وكوكتيل لا منتهى له من الخبرات والمهارات والهوايات، وكان -كجميع أبناء جنسه- يهوى النساء.

هل قلت: جميع أبناء جنسه؟ ربما في الجملة تعميم لا يرتضيه شذاذ الآفاق، لكن على ما تقتضيه الفطرة فالقول يصح، المهم -حتى لا نترك السيد زاديج يتجمّد في الصقيع بينما أجادل القارئ الكريم في أمور هامشية- كان زاديج يهوى سميرة، ولا تسألني لماذا سميرة على وجه التعيين والتخصيص، إذ إن سيدنا فولتير خلع عليها هذا الاسم -عامدًا متعمدًا أو كيفهما اتفق- ولم يخبرنا الحيثيات، لربما أضاف في الحواشي تغني زاديج بها مع القيصر: "تقتلني امرأةٌ من وطني تساوي مُلك سليمان".

وفي أعقاب موعد غرامي، أرخى عليهما الليل سدوله وتمطّى وأردفَ وناءَ، وقبل أن يصرخا مع الملك الضليل (ألا أيها الليلُ الطويل ألا انجلي/ بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ)، خرجت عليهما جماعة من الأشقياء المتسكعين أبناء الليل وقطّاع الطرق، طلبوا من زاديج أن يُخلِّي بينهم وبين سميرة وأن ينطلق إلى حال سبيله راشدًا لا تثريب عليه، لكن الدماء غلت في عروق الفيلسوف زاديج، وقرر أن يقاتل هؤلاء السفلة ويحمي الست سميرة.

بعد معركة غير حامية الوطيس بين زاديج والأشقياء، جُرِح الفيلسوف في عينه اليسرى، وتهافت الأطباء عليه من كل مستشفى وعيادة ومستوصف ليفحصوا الجرح ويعالجوه، لكن وقع اتفاق بينهم على غير ترتيب أن الحالة حرجة، والعلاج صعب إلا أن يُرسل إلى منف، وتحديدًا مستشفى أم المصريين هناك، إذ إن طبيبًا يُدعى هرمس لا يُضارع في طب العيون، وبإمكانه أن يعيد الأمر لنصابه.

عاد زاديج أدراجه يتجرع مرارات الحب وعذابات الصفعة الأخيرة، يتحسّس فكه بين الحين والآخر، يشعر في دواخله أنها سددت له القاضية في الحتة الفاضية

طار نبأ عين زاديج في الأقطار، وانشغلت سميرة شغلًا لا مزيد عليه، تُرى ماذا تصنع المسكينة؟ هل يُعقل أن مستقبل الفيلسوف يضيع في شربة مياه؟! وكيف تُسجَّل هذه الحادثة في سيرته الذاتية وصحيفة أحواله الجنائية لاحقًا؟ بيد أن سميرة -حفظها الله- كان يُقيمها ويُقعدها شأن آخر، ستحمل الصحف تفاصيله بعد ساعات.

بالعودة إلى الأسد الجريح -سكارفيس العراق- الأخ زاديج، فقد هيَّأ هرمس نفسه للزيارة وتوقيع الكشف الطبي على زاديج في محل إقامته، وانعقدت الآمال على هرمس، وانطفأ الأمل بعد قراءتهم تقريره الطبي، وفيه أكد طبيب العيون العالمي أن زاديج سيفقد عينه اليسرى إلى أبد الآبدين، وتعلّل الطبيب أنه لو كانت الإصابة في عينه اليمنى لأمكنته الفرصة من علاجها، لكن ما باليد حيلة.

بعد يومين، استيقظ زاديج من نومه يجتر الذكرى الأليمة ويعض على إصبع الندم، حدّث نفسه: أين كانت الفلسفة حين تعاركت مع شوية عيال؟ لماذا لم تحترم المنطق والفلسفة يا زاديج؟ عاجبك الحال اللي وصلت له ده؟ ضرب كفًا بكف وحاول ببطء أن يفتح عينه المصابة، وشيئًا فشيئًا إذا بالعين "صاخ سليم"، وكأن معركة لم تقع وكأن هرمس لم يأتِ ولم يجزم بفقدان العين، كأن ما دار في اليومين الماضيين من أحلام الكرى، ولا حقيقة له في الواقع ولا في عين زاديج!

ترك الفيلسوف أهله وحاله ومحتاله، ترك الناس الذين تقاطروا من السليمانية والأنبار والبصرة والمثنى وديالي وواسط، ما جاؤوا إلا للاطمئنان على عين زاديج، تركهم عن بكرة أبيهم وقطع الأرض على جناحي نعامة إلى بيت الست سميرة، ليزف إليها نبأ شفائه ويعيد ما انقطع من وصلات الهيام والغرام، ويشمخ بأنفه في ساحتها، متلهِّفًا على وصالها، وسيدي وصالك زاد عليَّ حنيني!

صُعق المُدلَّه مما رأى، هذه سميرة تتأبّط ذراع شاب آخر، وسامته لا تزيد عن وسامة زاديج، رصيدهما في البنك واحد، ولا يزيد مجموعهما على 100 دينار عراقي؛ فلماذا فرَّطت سميرة في حبك يا زاديج في غضون 48 ساعة؟ أتترك حبلك على غاربك بعد حركة بهلوانية كادت تودي بعينك ومستقبلك في عالم الفلسفة والمال والأعمال؟! أيُعقل هذا يا بنت الحلال؟! سألها بقلبٍ مكلوم عن البواعث والأسباب، سبَّلت عينيها وتغنَّجت بعدما عضَّت على شفتها، وقالت "تدلل يا الغالي زاديج! أنا ما بعت حبك ولا نسيته، لكن عندي عقدة من العُور، أكره الرِّجال العُور كرهًا لا شيء فوقه ولا بعده، وخشيت أن تنضم إلى صفهم، فحسمت موقفي واتخذت قراري".

عاد زاديج أدراجه يتجرع مرارات الحب وعذابات الصفعة الأخيرة، يتحسّس فكه بين الحين والآخر، يشعر في دواخله أنها سددت له القاضية في الحتة الفاضية، إذ كان قبل ذلك حين يُسأل لماذا أحببت هذه الفتاة دون سواها؟ يعيش دور الدونجوان ويرفع عقيرته (أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى/ فصادفَ قلبًا خاليًا فتمكّنا)، لكنه الآن أدرك خطل رأيه وسوء فهمه، وإن دُعي بين الناس بالفيلسوف.