رمضان وجمع المؤنث السالم
عبد الحفيظ العمري

جاء رمضان، وأقبلت الأمسيات الطويلة التي تتخللها الركعات والصلوات، وتحلو فيها التلاوات في شهر هو شهر القرآن به اتسم ولازمه منذ النزول.
شهر رمضان وما أدراك ما شهر رمضان، يتجدّد جمع المؤنث السالم فيه إعلاناً للجماعات القادمة من الجموع المتعددة، لأنّ كلَّ جمعٍ مؤنثُ، كما يقول الشاعر:
إنّ قومي تجمّعوا / وبقتلي تحدّثوا
لا أبالي بجمعهم / كلُّ جمعٍ (مؤنثُ)
ولكن كلٌّ له (جمعُهُ) المؤنث السالم الخاص به!
فقوم يرون في شهر رمضان شهرَ الأكلات والوجبات، والفوازير، والمسابقات، والبرامج، والمسلسلات التي بدأت الفضائيات بالتبشير بها منذ أسابيع خلت.
شهر السهرات، ودواوين القات التي تزخر بها كل أمسيات هذا الشهر الفضيل.
وهم في ذلك لم يروا فيه إلا إطالة الأوقات عمّا كان عليه الحال في الفطر، وليس لهم من رمضان إلا الامتناع عن الملذات والمفطرات في نهاره، والاستمتاع بالحياة في ليله حتى مطلع الفجر وميعاد الإمساك، يدور عليهم (قمر الدين)، وأكواب المشروبات، وأواني المكسرات، ثم عيدان القات لتحلو السمرات حتى آخر الليل.
أما الفريق الآخر فيرى في رمضان شهرًا للركعات، والصلوات، والنوافل، والقُرُبات، وكثرة الصدقات، والتسابق على إعداد (موائد الرحمن) في بيوت الرحمن لينالوا الأجر والثواب في ميزان الحسنات والطاعات، ويرون أنّه شهر التلاوات، وإتمام (الختمات)، والذكر يتعالى في صلاة التراويح من أطهر البقعات المقدّسة على وجه الأرض.
وإن تكاسل قوم، وقلبوا رمضان فراشَ نوم، وغطّوا في غياهب السبات كلَّ تلك الساعات، فهؤلاء شمّروا عن ساعد الجِد، وقاموا بدون توانٍ ولا خمول؛ فالشهر له عندهم ذكريات عن أسلاف ورجال حقّقوا فيه كلَّ الانتصارات في تلك الغزوات الخالدات؛ من بدر الكبرى إلى أكتوبر المعاصرة، مرورًا بفتح مكة وتبوك وعين جالوت.
شهر كان العمل فيه ديدنًا ملازمًا له، لا ملجًأ للعجزة والكسالى الذين لم يروا منه إلا اقتناص الملذات.
وكلا الفريقين ينهجان بنهج: كلٌّ ميسَّرٌ لما خُلق له.
مسألة الثبوت
في بلداننا العربية بعد الأحداث التي اجتاحتها، ولا تزال في بعض بلداننا، ما هو حال الشهر الكريم؟
هل لا يزال الحال على ما هو عليه منذ اليوم الأول حيث يتجدد خلافنا حول ثبوت الهلال من عدمه؟ فتتفاوت البلدان الإسلامية والعربية في هذه المسألة ما بين مقدِّم ومؤخِر، وكأن السماء فيها عشرون هلالًا، وليس هلال واحد يطل على الأرض بنفس الوجه الذي عهدناه منذ زمن وجوده؟!
في زمان تقدّم فيه علم الفلك، وتقدّمت أدواته العلمية القادرة على رصد أبعد الظواهر الفلكية عنا بمئات السنين الضوئية بدقة متناهية، ونحن لا نزال في كلِّ سنة نختلف في ثبوت هلال رمضان أو هلال العيد من عدمه؟!
سيظلُّ رمضان يأتي أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، وما التقلبات والتغيرات إلا فينا، نحن معشر المسلمين، الذين يأتي عليهم رمضان ويمرُّ وهم في كلِّ عام على حال، وليس الشهر الكريم لدينا إلا أيامًا معدودات تمرُّ بنا ما تغيّر فينا إلا مواعيد الدوام، وكثرة الإجازات، واضطراب الأوقات، وابتداع الملذات التي لا تزيد في الأمر شيء سوى مظاهر تنأى بنا عن شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناسِ وبيناتٍ من الهدى والفرقان.
***

