رمضان في مصر حاجة تانية.. ومحمد رمضان أيضاً!

في برنامج لطيف يعبّر بشدّة عن الحقبة التي نعيشها في مصر، ويتلاءم مع الاحتياج العام لهذا النوع من المحتوى، يقدّم رمضان (الفنان) خلال رمضان (الشهر) حلقات تقوم على الاختيار العشوائي للمواطنين، لربح مبالغ مالية تمثّل قيمة عالية للمصريين اليوم، مئة ألف جنيه أو مائتا ألف جنيه، يكسبها صاحب النصيب، وهي بالتأكيد لن تشتري بيتاً، ولن تجلب سيارة موديل التسعينيات حتى، لكنها قد تنقذ غارمًا من السجن أو تؤخّر مشروعًا من السقوط أو تفتح مشروعًا على وشك الفشل بعد قليل.
ومن عادة الناس في هذه المكاسب السريعة أن تذهب سريعةً أيضاً، ولكن يبقى أثرها في المجتمع بما هو أثمن من المدفوع فيها، فتوحي إليها بأنّ لدينا رفاهية برامج المسابقات، وأنّ ثمّة مشهورًا يغدق على الشعب المقهور بعضًا من عطايا المموّلين والمعلنين، وهكذا تدور عجلة رمضان بعيدًا عن هموم رمضان الحقيقية، حيث لا يجد الصائم ما يفطر عليه، ولا يجد المقيم ما يتقوّت به، ولا يجد الإنسان ما يشدّ صلبه حتى أذان المغرب، وقد صار للبيضة شأن ووزن، وآهٍ لو استحالت كتكوتًا، فإنه ثروة داجنة، يعادل الفرد الكتكوت فيها أكثر من خمسين جنيهًا مصريًا دفعةً واحدة.
يساير محمد رمضان في برنامجه "مدفع رمضان" هوى السلطة في صرف الناس عن الكارثة التي تحدث، استمرارًا للعبة "بص العصفورة" التي تتقنها جيّدًا، فبينما تصادر من المواطنين في نحو أسبوع واحد، ما يوازي مليار جنيه مصري من النقد الأجنبي، بتهم مضحكة مثل الاتجار في العملة، حيث قُبض عليهم وهم يدخرون "شقا عمرهم"، أو يستقبلون حوالات من المغتربين بالخارج، أو يتلقون مبالغ رمزية من عملهم عن بعد... ولا بأس بأن تلقي من هذه الـ700 مليون جنيه المقبوض عليها في آخر يومين فقط ولو مليون جنيه، لأن الخبر لن يحرز مشاهدات ولن يحوز اهتمام الجمهور المجوّع بالفقر المدقع، وإنما سينصرف إلى المليون جنيه التي ستجذب ملايين المشاهدات، وسيشعر الفقراء بالامتنان للنموذج الرمضاني السلطوي، الذي يمثّل الدولة بوجهها غير المقنّع بأيّ شيء، الدولة التي تقتات على المعدومين، ثم تلقي إلى عدّة معدومين ما يحرز لها اللقطة، كمن يسرق صندوق تبرعات المسجد، ثم يشتري به مسبحةً ومصحفًا ويضعهما في خزانته، حينها سيراه الناس من المصلحين!
تدور عجلة رمضان بعيدًا عن هموم رمضان الحقيقية، حيث لا يجد الصائم ما يفطر عليه، ولا يجد المقيم ما يتقوّت به
ستون مليون إنسان تحت خطّ الفقر أو مهدّدون به حسب إحصائيات قديمة عفا عليها الزمن من البنك الدولي، وأيام رفاهيات البنك الدولي وإحصاءاته، لكن اليوم، إذا أردت أن تنزل مصر وتحسب، فعليك أن تحسب المقتدرين أولاً، ثم تقتطع الإجمالي، وحينها ستفاجأ بعدد البقية، تلك الملايين الممليَنة من المسحولين، المعدمين، الذين لا تعرف كيف يعيشون ولا كيف يصومون ولا كيف يفطرون، كيف يستمرون على قيد الحياة ليوم آخر كلّ يوم، كيف يستمرون لعام آخر كلّ رأس سنة، كيف يشاهدون التلفاز حتى اليوم، ويتابعون "مدفع رمضان" ليجدوا فيه الحلم الضائع، والنشوة المستحيلة، بأن يأتيهم فجأة اتصالٌ هاتفي، على الهاتف الذي لم يدفعوا فاتورته منذ ثلاث سنوات، ليخبرهم أنهم ربحوا مئتي ألف جنيه، على الأرجح، من خمسمئة مليون جنيه صادرتها الدولة اليوم من أمثالهم.
فليعش "مدفع رمضان" ومحمد رمضان وكلّ الرمضانات التي تريدها السلطة أن تشغل الشعب عن "رمضان" الحقيقي الذي لا يشعرون به منذ عشر سنين عجاف، حتى لا يسألوا عن حقّهم المهدر، ولا ينتظرون ساعة الحسم، وإنما يتأهبون بجانب هواتفهم لذلك الاتصال الوضيع، الذي ربما لن يأتي أبدًا.
