رغم كل شيء... لماذا علينا مساندة إيران؟
في عالم مشوّش بالمواقف والمصالح، تصبح الحقيقة ضحية الاصطفافات. ومن بين أكثر الأسئلة إثارة للجدل في المشهد العربي اليوم: لماذا يُساند بعض العرب إيران، رغم مشاركتها في جرائم دموية، ودعمها لأنظمة ديكتاتورية، وتدخلاتها الإقليمية؟
السؤال مشروع، والإجابة تتطلّب شجاعة في تجاوز السرديات السطحية، سواء تلك التي تلمّع إيران وتقدّسها، أو تلك التي تُشيطن كلّ ما يأتي من طهران من دون تمييز.
صحيح أنّ إيران دعمت نظام بشار الأسد البائد، ووسّعت نفوذها في العراق ولبنان، أحياناً على حساب السيادة الوطنية، وأحياناً تحت غطاء المقاومة. هذا الواقع جعلها خصماً لكثير من العرب الذين رأوا في تدخلاتها انتهاكاً للإرادة الشعبية، وتعزيزاً لانقسامات طائفية، أو حتى محاولة لتقاسم النفوذ مع دول عربية أخرى تتدخّل تحت شعارات مختلفة. لكن في المقابل، تظلّ إيران الدولة الوحيدة في الإقليم التي اختارت الاصطفاف غير المشروط مع فلسطين لا مع الاحتلال، ومع المقاومة لا مع التطبيع.
في الوقت الذي كانت فيه عواصم عربية كبرى تتقارب مع تل أبيب وتضيّق الخناق على غزة، كانت إيران تمضي في الاتجاه المعاكس: تمدّ يد الدعم لفصائل المقاومة الفلسطينية، وتوفّر السلاح والمال، وتُدير المواجهة مع إسرائيل عبر أذرعها في الإقليم.
لكن هذا الدعم "رغم حجمه" لم يكن مشروطاً بالولاء الكامل، ولا منح إيران سلطة مباشرة على قرارات الفصائل. العلاقة بين الطرفين لم تكن علاقة تبعية، بل تقاطع مصالح في جبهة مقاومة مشتركة، تتلاقى في العداء لإسرائيل لكنها تختلف في المشروع السياسي والأيديولوجي.
نُدين الظلم أيّاً كان مصدره، وندعم من يقف مع قضايانا، ولو اختلفنا معه في ألف ملف
إيران، من جهتها، تتعمّد في كثير من الأحيان البقاء خلف المشهد، تحرّك أدواتها بهدوء وتترك للفاعلين المحليين واجهة المواجهة. وهكذا، استطاعت أن تبني لنفسها حضوراً في ساحات لا تخوضها مباشرة، لكنها تبقى جزءاً من معادلتها الإقليمية.
نعم، إيران أخطأت في سورية. دعمت نظاماً مسؤولاً عن مئات الآلاف من القتلى والمهجّرين. وهذا لا يمكن تبريره، حتى لو تمّ تغليفه بشعار "محور المقاومة". ونعم، لها نفوذ مُقلق في العراق ولبنان، تغذّيه المليشيات والانقسامات الطائفية. لكن رغم ذلك، يرى كثير من العرب أنّ هذا لا يُلغي أنها وقفت حيث لم يجرؤ غيرها على الوقوف. لم تساوم على فلسطين، ولم تُدر ظهرها لغزة، ولم تشارك في مسرحية التطبيع الكبرى.
من المهم الاعتراف بأنّ أحد أسباب توسّع نفوذ إيران في سورية والعراق ولبنان، ليس فقط دهاءها السياسي أو قدراتها العسكرية، بل غياب قوى معارضة وطنية منظّمة وموثوقة. ففي كثير من هذه الدول، المعارضة إما مشتّتة، أو تابعة لقوى خارجية، أو غارقة في الفساد والطائفية. وهذا ما جعل التدخل الإيراني يبدو "مهيمناً"، لا لأنه مثالي، بل لأنه ملأ فراغاً تركه الآخرون.
الوقوف إلى جانب إيران في قضايا معيّنة لا يعني تبنّي مشروعها السياسي، ولا الانسلاخ عن الهُويّة العربية
الوقوف إلى جانب إيران في قضايا معيّنة لا يعني تبنّي مشروعها السياسي، ولا الانسلاخ عن الهُويّة العربية، ولا يُفترض أن يُستخدم غطاءً لتبرير جرائمها أو التغاضي عنها. بل يعني ببساطة: الانحياز لمن يقف في وجه الاحتلال، ورفض منطق الهيمنة الإسرائيلية الذي يُفرض على المنطقة تحت شعارات السلام والتطبيع والشراكة.
المطلوب هو الوعي، لا الاصطفاف. أن نحاكم المواقف بناءً على المبادئ والمصلحة العامة، لا بناءً على الطائفة، ولا الولاء للمحاور الخارجية. نُدين الظلم أيّاً كان مصدره، وندعم من يقف مع قضايانا، ولو اختلفنا معه في ألف ملف.
قد تختلف مع إيران، بل وقد ترفض مشروعها الإقليمي بالكامل، لكنك لا تستطيع إنكار حقيقة واحدة: أنها ما زالت تقف حيث يجب أن يقف كلّ من يدّعي الانحياز لفلسطين. في زمن تخلّى فيه كثير من العرب عن موقفهم الأخلاقي، وتحوّلوا إلى وسطاء للتطبيع أو أبواق للعدو، اختارت إيران أن تبقى "على الأقل" في موقع الخصومة مع الاحتلال، لا على موائد الشراكة معه.
الموقف من إيران ليس اختبار ولاء، بل اختبار وعي. ومن لا يرى الصورة كاملة، سيبقى يتأرجح بين أعداء متخيّلين وحلفاء مزيفين.