ردوا إلينا مشرقنا!

ردوا إلينا مشرقنا!

08 ديسمبر 2020
+ الخط -

 نشأنا في أرض المغرب الأقصى على حب بلاد المشرق العربي وأهلها؛ فهي أرض المحشر والمنشر ورجالاتها هم الهداة المهديون: أنبياء وأولياء وفقهاء وشعراء... وسواء تعلق الأمر بالبيت أو المدرسة يتشبع الطفل منا بهذا الحب منذ نعومة أظافره. ففي البيت يشاهد حماسة الأهل وهم يتحدثون عن زيارة هذا "الشرق" المدهش لأداء فريضة الحج وزيارة قبر سيد الأنام. وبين أسواره كذلك يتابع حديثهم عن بغداد، آه يا بغداد، هكذا تنهدت أمي ذات يوم وهي تذكرها، تلك المدينة الحلم التي لا تشبه مدننا، وأنى لها أن تفعل وهي تحتضن بين جنباتها القطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني وباقي الأئمة والأولياء.

و يغادر الصغار إلى المدرسة فيحدثهم المعلم عن سيدنا نوح وسندباد وفرعون وحمورابي وبلقيس وزرقاء اليمامة والظاهر بيبرس، كما يحدثهم عن مكة و حلب و صنعاء والبصرة وبابل وصور ويافا والقاهرة وغيرها من البقاع، فيختلط الواقعي بالخيالي في ذاكرتهم وتوسم عوالمهم الطفولية بتلك الشخصيات والفضاءات التي تصاحبهم في لياليهم والأحلام.

 ثم يكبرون فيتعرفون إلى أئمة الشرق وعلمائه؛ هؤلاء مفسرون وأولئك رواة محدثون، وبينهم لغويون وكتاب وشعراء. في مدرستي البصرة و الكوفة قعدت اللغة، وغير بعيد عنهما دارت معارك الأشاعرة والمعتزلة. وهناك تمرد أبو نواس وبشار بن برد وقتل المتنبي. وفي العراق فرخ الجاحظ عياله وعاش الخليل بن أحمد الفراهيدي والحريري وغيرهم من الرواد.

ويشتد عود الصغار أكثر فيقرأون عن سنوات وقرون المشرق العجاف؛ ممالك وصليبيون وعثمانيون، ثم تكون الحملة والنهضة ولهفتنا على الأمة والدولة، وكان ما كان من أمر الاستعمار وفلسطين وعبد الناصر والحلم. صوت العرب ينطلق صداحا من القاهرة، ومعه ثورات التحرير والرواية وشوقي وطه حسين والعقاد والحكيم وباقي العصبة. وفي العراق تهفو الأفئدة إلى السياب والملائكة والشعر وأمل في أن ينبعث طائر الفينيق من رماده معلنا عودة مجدنا التليد.

وتتقدم السنوات بالشباب أكثر وهم يتتبعون أحداث قرن الأحلام و الخيبات؛ هزيمة يعقبها انقلاب تليه هزيمة أخرى، رحماك يا الله؛ قلوب الرجال هنا في طنجة والرباط ومراكش أضحت واهنة ولم تعد تتحمل. يرحل غسان كنفاني ويأتي أدونيس مبشرا بالبعث، لكن صوت أم كلثوم لم يعد يطرب كما كان يفعل. نصر أكتوبر يحيي الآمال وبعده العراق الجديد الذي يرعى العروبة والثقافة، مطبوعاتنا ومجلاتنا من بلاد الرافدين بعد أن غاصت بيروت ودور نشرها في الدماء.

وبرغم الداء و الأعداء، ظللنا على عهدنا، أوفياء لمشرقنا؛ نبكي مع صبرا وشاتيلا ونهتز لقصف المدن العراقية من مدافع الثورة الإسلامية في طهران. لكننا لم نكن لننسى نصيبنا من هبات رياح المشرق، فخشعنا مع الشيخين عبد الباسط عبد الصمد والحصري في تلاوتيهما، كما طربنا لأداء نجاة الصغيرة وفيروز، ومعهما ضحكنا لكوميديا عادل إمام وسعيد صالح والبقية، فنحن قوم نحب الحياة، استطعنا أم لم نستطع إليها سبيلا.

 و تتوالى السنوات عجافا ليغرق مشرقنا أكثر وأكثر. فمع نهاية القرن العشرين تنفجر صراعات ومشاكل أدهى مما فات وكان؛ غزو وأحلاف وانقسام، وسياق دولي جديد اختلت معه التوازنات. لكننا أبدا لم نحد عن وجهتنا. فلسطين.. فلسطين.. فلسطين، والقدس هي عروس عروبتنا حقا أيها المظفر.

 ومع حماستنا وتصفيقنا لصمود لبنان ومقاومته خلال العقد الأول من قرننا الجديد، تأبى حليمة إلا أن تعود لعادتها القديمة، فتدخل بلاد المشرق في فتن وحروب جديدة، و يزداد بكاؤنا عليها وتتملكنا الأحزان، وكيف لا نفعل ونحن نراها تبتعد عنا بمسافات وسياسات. فبغداد الرشيد لم تعد كذلك أو هكذا تحكي وسائل الإعلام والناس، أما يمننا فغابت عنه السعادة والأمان، ولا تسألني عن دمشق وحلب فقد غدت مدنا موحشة من دون أهلها والعمران، يغلفها الحزن والبؤس والسواد.

 فلتعيدوا لنا مشرقنا يا من ضيعتموه وغيبتموه، خذوا الأرض وما تحتها ودعوا لنا أسماء المدن وتاريخها، دعوا لنا الفقهاء والعلماء والشعراء. يا من جمعتمونا وإياكم تحت سقف واحد ذات يوم وقلتم خلان وإخوان، لماذا أوهمتمونا بالغد المشترك والجنان ثم رحتم تغتالون الأحلام. لكننا نعدكم، ووعد الحر كما تعلمون، أننا لن نتخلى عن حب مشرقنا وحلمنا في غد قريب نصل فيه الرحم مع مدنه وقراه؛ فنزور الناصرة وأسوان والغوطة والمعرة وأبين وعدن وسامراء والسماوة وباقي المناطق والبلدان. وما ذلك على الله ببعيد.