رجل يلح مثل الوَكف

رجل يلح مثل الوَكف

28 يونيو 2022
+ الخط -

بينما أنا أفتح الخط، لأرد على اتصال صديقي "أبو صالح" الذي يقيم في إدلب، إذ سمعته يضحك. فقلت له: الله يجعله خيراً يا أبو صالح؟

- معك حق أن تسأل إن كان ضحكي خيراً.. فالضحك من اختصاص الشعوب المستريحة، الآمنة.. سمعت أن الفرد، في الدول المستريحة، إذا تعرض لضرر أو خسارة، أو تطاول عليه أحد، يفتح باجوقه على دوائر الدولة، ولا يسده (أقصد باجوقَه) حتى يحلوا له مشكلته، ويرشوا له فوقها حبة مسك.. وأما نحن فلا نضحك إلا بمقدار، وإذا ضبطنا أنفسنا متلبسين بالضحك نسارع إلى التعوذ بالله، ونقول: اللهم اجعله خيراً.

- كل ما قلتَه يا أخي أبو صالح عن حقوق المواطن في الغرب صحيح، ولكن لا بد لي من توضيح، وهو أن المواطن الأوروبي لا يحتاج إلى البوجقة مثل النسوان اللواتي يتحدثن في مسلسلات البيئة الشامية لكي يحصِّل حقه من الدولة، إذ يكفي أن يكتب مكتوباً (رسالة)، ويرسلها بالبريد إلى الجهة صاحبة العلاقة، دون حاجة لأن يلصق عليه أي نوع من الطوابع التي تحمل صورة المجرم حافظ الأسد، أو أي واحد من الشخصيات المختصة بقتل الشعوب.. وللدلالة على ذلك، سأروي لك حكايتين شهدتهما هنا في ألمانيا.

- يسرني أن أسمعهما. تفضل.

- الحكاية الأولى: رجل سوري، صاحب محل في مدينة ألمانية، أخبر الجهة الحكومية المختصة أن السقيفة التي يستخدمها لتخزين البضائع فيها نشيش ماء. خلال ثلاثة أيام من إرسال المكتوب، جاءت لجنة من رجلين وامرأة، صعد أعضاؤها إلى السقيفة، صوروا السقف بالموبايلات، وتأكدوا من أن الكلام الوارد في المكتوب صحيح.. ثم نزلوا، تحدثوا مع صاحب الشكوى قليلاً، وغادروا، وبعد أيام قليلة أخبروه، بمكتوب عليه خاتم الجهة الحكومية المذكورة، دون طوابع، أن الخلل الذي أدى إلى النشيش قد أُصلح تماماً، وصرفوا له مبلغ 6000 يورو، تعويضاً له عن خسائره، وصديقي هذا، من فمه إلى أذني، أخبرني بأنه لم يتعرض لأي نوع من الأضرار المالية، ولإزالة آثار النشيش اشترى فرشاة وسطلين من الدهان بمبلغ صغير، ودهن المكان بنفسه وانتهت المشكلة.

القسم الأكبر من أهل البلدة يدعون الله أن يرسل المطر، بينما النساء اللواتي يعانين من الدلف (الوكف) -ومنهن أمي- كن يدعين الله أن يوقف المطر، لئلا يضطررن لصف الطشوت والقناني والصحون مقابل الثقوب التي ترشح ماء من السقف!

وضحك وقال لي: الله يبعت لنا نشيش سقيفة أو جدار أو حائط عما قريب، إنه سميع مجيب!

وأما الحكاية الثانية، فبطلها سوري أيضاً، نزل في الصباح إلى الشارع ليركب سيارته، فرأى أن الطرف الخلفي منها مضروب، وفوقه رسالة من رجل يقول فيها: أنا فلان، أعتذر لأني صدمتُ سيارتك بالخطأ، بإمكانك أن تتصل بي على الرقم (..)، وأنا جاهز لكل شيء. وبالطبع لم يتكبد صادمُ السيارة أية خسائر، فقد دفعت شركة التأمين لصديقنا السوري 4000 يورو للإصلاح. مع أن كلفة التصويج والبخ - كما أخبرني الرجل بعظمة لسانه - لم تتجاوز خمسمئة يورو.

- بعد إذنك أبو مرداس، سأعلق على الحكاية الأولى. معظم بيوتنا، نحن أبناء الأرياف، كانت تنش من جهة السقف. وأحياناً يتطور النشيش فيتحول إلى تنقيط. ويقال له (الوكف). ومعالجة الوكف تقتضي أن يُعاد النظر بالبيتون الخاص بالسقف، ويضاف إليه إسمنتٌ مذاب بالماء يسمونه (الروبة)، ولكن أهلنا فقراء، لا يلجأون إلى هذا الإجراء فوراً، لأنه مكلف، وصاحب البيت يوكل لزوجته أمر معالجة الموضوع. والأم، في هذه الحال، تضع الفرش الخاصة بالنوم في مكان لا ينقّط السقفُ فوقه (لا يكفُ)، بالإضافة إلى إجراءات احتياطية أخرى، وهي أن تضع تحت كل منطقة تنقيط طنجرة، أو صحناً، أو قنينة ذات فوهة واسعة، وتراقبهن على الدوام، حتى إذا امتلأتْ إحداهن، تحملُها، وتهرع بها إلى البالوعة، تفرغها، وتعيدها إلى مكانها لتلقي النقاط المتساقطة برتابة.

- أعدتَني بالذاكرة، يا أبو صالح، أكثر من نصف قرن إلى الوراء، حيث كنا نسكن في دار جدي الحاج خطيب التي يلعب فيها الخَيَّال، وتقوم والدتي بوضع الأواني تحت الدلف مثلما ذكرتَ في شروحاتك، وكنا، في بعض الأحيان، نقترح على الوالدة أن تنقلنا إلى إحدى الغرف القبلية (أي التي تتوجه نحو الجنوب) التي لا تنش ولا تَكِف، فتوافق، ولكن، كانت تصادفنا مشكلة جدية، وهي أن الغرفة الوحيدة التي تركب فيها مدفأة هي غرفة الجلوس، فإذا انتقلنا إلى غرفة قبلية كنا نتخلص من الوكف، ولكننا نعاني من البرد الذي كانت أمي تسميه (قظَّا القرد). وبما أن أوضاعنا نحن السوريين كلها مقلوبة، فسأحكي لك عن مفارقة ظريفة أخرى.

- تفضل.

- قبل مدة من الزمان، كما نتحدث أنا وأنت، وأتينا على ذكر الأحكام العرفية التي كانت تُفرض على مَن يرتكب مخالفة بسيطة، فقلتَ لي إن مَن يُسْجَن عرفياً رجل غشيم. سألتك عن السبب فقلت لي: إذا دفع رشوة أحسن من الذهاب إلى السجن.. يعني لك أن تتصور أننا نحن المواطنين الذين ندعي أننا شرفاء نشجع الناس على دفع الرشاوى للأوباش الذين يتسلبطون علينا!

- فكرة رائعة أبو مرداس، ولكن، ما هو وجه الشبه بين الحالتين؟

- كان المطر ينحبس على أهالينا في بعض السنين، ونصل إلى أواسط كانون الأول/ ديسمبر، وتبقى السماء قابضة، مكشرة، ما فيها نقطة مطر، والمشايخ يبتهلون إلى الله في المساجد أن يغيثنا، وأحياناً كان الأولاد يخرجون إلى الأزقة وينشدون:
أم الغيث يا رَيَّا
عَبّي جبابنا مَيَّة

المفارقة؛ أن القسم الأكبر من أهل البلدة يدعون الله أن يرسل المطر، بينما النساء اللواتي يعانين من الدلف (الوكف) -ومنهن أمي- كن يدعين الله أن يوقف المطر، لئلا يضطررن لصف الطشوت والقناني والصحون مقابل الثقوب التي ترشح ماء من السقف!

- يا عين عليك يا أبو المراديس. بالفعل، هذه مفارقة رهيبة.

- وما أكثر هذه المفارقات. وأقول، أخيراً، إن الوكف ينقط بإلحاح، وانتظام، ورتابة تبعث على الضجر والملل. والرجل الملحاح يقولون عنه في بلادنا: إنه ألحّ من الوكف... الحكاية أن رجلاً ألح من الوكف، طُلب منه، ذات مرة، أن يسكت خمس دقائق متواصلة، لقاء مبلغ مئة ليرة يتسلمها عند انتهاء الدقيقة الخامسة. لم يستطع الرجل الملحاح صبراً، فبعد مرور دقيقة ونصف تقريباً تكلم، وكان أول شي قاله: أريد أن أتكلم، والرزق على الله!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...