رؤية أردنية في معترك السياسة العالمية
"سأضع مصلحة بلدي فوق كل اعتبار"، بهذه العبارة الحاسمة، رسم جلالة الملك عبد الله الثاني نهجاً سياسياً لا يقبل المساومة، مؤكّدًا استقلالية القرار الأردني في عالم تتغيّر فيه التحالفات والمصالح بسرعة. هذه الكلمات لم تكن مجرّد تصريح دبلوماسي، بل كانت رسالة سياسية واضحة إلى الداخل والخارج، تعكس رؤية قائد يدرك تعقيدات السياسة الدولية ويعرف كيف يحافظ على استقرار بلاده وسط عواصف إقليمية لا تهدأ.
خلال لقائه مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في واشنطن، جاء حديث الملك في لحظة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط، حيث المنطقة تغلي بالأزمات، من النزاعات المسلحة إلى التغيّرات الجيوسياسية المُتسارعة، لكن الأردن، رغم محدودية موارده، ظلّ ركيزة للاستقرار، لنكون أمام سؤال يقول: كيف نجح بلد صغير بحجم الأردن في الحفاظ على مكانته وسط هذه الفوضى؟ الجواب يكمن في استراتيجية السياسة الملكية، التي تزاوج بين الثبات على المبادئ والمرونة في التكتيكات، وهي معادلة نادراً ما تتقنها الدول الصغيرة في عالم السياسة الدولية.
حين قال الملك إنّ مصلحة الأردن فوق كلّ اعتبار، لم تكن كلماته مجرّد بروتوكول دبلوماسي، بل إعلاناً صريحاً أنّ عمان ترفض أن تكون مجرّد تابع في لعبة الأمم، فبينما تتغيّر أولويات القوى الكبرى، يبقى الأردن ثابتاً على مواقفه، يرفض الضغوط، ويتمسّك بسيادته، ويرفض المغامرة بأمنه واستقراره تحت أيّ ظرف، هذه الواقعية السياسية هي ما جعلت من الأردن شريكاً موثوقاً في قضايا الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب، وهي أيضاً ما جعلت الدول الغربية، بما فيها بريطانيا، تنظر إليه حليفاً أساسياً في الشرق الأوسط.
بينما تتغيّر أولويات القوى الكبرى، يبقى الأردن ثابتاً على مواقفه، يرفض الضغوط، ويتمسّك بسيادته
منذ سنوات، والأردن يتعامل مع التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية بذكاء استراتيجي. تحمّل عبء أزمة اللاجئين السوريين، بينما كانت دول أخرى تغلق حدودها، لعب دور الوسيط في القضايا الفلسطينية الإسرائيلية، حين انسحبت أطراف دولية من المشهد، شارك بفاعلية في التحالفات الأمنية ضدّ الإرهاب، لكنه رفض أن يكون جزءاً من أيّ مشروع سياسي يهدّد استقرار المنطقة. كلّ هذه المواقف تؤكّد أنّ الأردن ليس مجرّد مراقب، بل لاعب أساسي في تشكيل خريطة الشرق الأوسط الجديد.
لكن أهمية الأردن لا تقتصر فقط على دوره الإقليمي، بالنسبة لأوروبا وبريطانيا، إذ يشكل استقرار الأردن عنصراً أساسياً في حماية أمن شرق المتوسط، والتصدي للتطرّف، لذلك، فإنّ دعم الأردن ينبغي ألّا يكون خياراً سياسياً، بل ضرورة استراتيجية للغرب، ففي الوقت الذي تهتز فيه بعض الدول تحت وطأة الفوضى، يبقى الأردن نموذجاً نادراً لدولة صغيرة بحجمها، كبيرة بتأثيرها، ثابتة بمواقفها، وراسخة في مبادئها.
وحين يقول الملك إنّ مصلحة بلده فوق كلّ اعتبار، فهو لا يوجّه حديثه للأردنيين فقط، بل يبعث برسالة إلى العالم مفادها أنّ الأردن، رغم التحديات، لن يكون تابعاً لأحد، ولن يساوم على قراره المستقل، وسيبقى عنصر توازن في منطقة مضطربة، تماماً كما كان عبر تاريخه الحديث.