ذكرى زيارة حافظ الأسد لمدينة إدلب

ذكرى زيارة حافظ الأسد لمدينة إدلب

04 يناير 2022
+ الخط -

كنا قد تطرقنا، أنا وصديقي أبو أحمد، خلال مكالمة الواتس أب، إلى سيرة محافظي إدلب، وقال لي إنه حتى الآن لم يفهم السر الذي جعل محافظ إدلب، زيد حسون، يبقى جاثماً على كرسي محافظ إدلب طوال تلك السنين، مع أن تغيير المحافظين في سورية كان يجري، في الحد الأقصى، كل أربع سنوات.

قلت: هل تريد أن نتكلم بشكل جاد، أم هزلي؟

قال: والله أنا أحب الأسلوب الهزلي أكثر.

قلت: معك حق، ولكن لعلمك أن الهزل منشؤه الجد، بل هو قمة الجد.. المهم، أنا أعتقد أن لزيارة حافظ الأسد لمدينة إدلب سنة 1971 علاقة بالموضوع.

قام حافظ الأسد بانقلابه العسكري على رفاقه، جماعة 23 شباط، رسمياً، في أواسط شهر تشرين الثاني نوفمبر 1970، ويقال إنه كان قد سيطر على مختلف المراكز العسكرية والأمنية في سورية منذ سنة 1969.. المهم؛ بعد نجاح الانقلاب، أراد أن يكسب رضا الشعب السوري، فشرع يقوم بجولات على المحافظات، حتى وصل إلى إدلب.

في البداية، إذا كنت لا تعرف، شهد حزب البعث حركة تمرد سلمية، إذ أعلن بعضُ الرفاق رفضهم للانقلاب، وتأييدهم لقيادة الرفيق صلاح جديد، ولكن سرعان ما تم امتصاص هذا التمرد، وغَيَّرَ بعضُ الرفاق رأيهم من معارضين إلى مؤيدين، عدا قلة قليلة من الرفاق الذين أصروا على موقفهم، فسيقوا إلى السجون زمراً.

قال أبو أحمد باستغراب: وهل سجنوهم بالفعل؟

قلت: ليس سجناً بالمعنى التقليدي للكلمة، (يعني سجن كم يوم أو كم شهر ويخرجون)، بل إننا تعرفنا من خلال سجنهم على طريقة حافظ الأسد في معاقبة معارضيه. اسمع هذه الحكاية لتتأكد من صحة كلامي. أنا التحقت بالخدمة العسكرية في شهر آب/ أغسطس 1977. وكان معنا رجل طيب ومحترم من قرية سيجر اسمه "محمد جمعة قوبان"، سرعان ما صار صديقنا، وعرفنا منه أنه كان مسجوناً، منذ حوالي سبع سنوات، لأنه معارض لانقلاب حافظ الأسد.. وقال إن مدة سجنه لم تنتهِ، ولم يصدر بحقه أي عفو، بل إن مدير السجن استدعاه فجأة وقال له:

- بما أنك لم تخدم العسكرية بعد، اخرج من السجن، اخدم عسكريتك، وارجع إلى هنا.

سكت أبو أحمد برهة، ثم قال: بصراحة؟ هذه القصة لا تصدق.

قلت: نعم. في الأحوال العادية لا تصدق، ولكن، على قولة الإعلان التجاري المصري: مع حافظ الأسد مش هَتلحق تغمَّض عينيك..

تتمة الحكاية: استغرقت خدمتنا العسكرية، يا سيدي، سنتين ونصف، وسُرّحنا يوم 1 شباط/ فبراير 1980، على وجه التحديد، وذهب كل واحد منا إلى داره، وأما محمد جمعة قوبان فقد وجد دورية الأمن في انتظاره على باب الثكنة، ألقوا القبض عليه، وأعادوه إلى السجن، وبقي هناك زمناً طويلاً لا أدري بالضبط كم هو.

قال أبو أحمد: طيب. وزيد حسون؟

قلت: سيأتيك خبره إذا صبرت عليّ. يا سيدي، بعد نجاح انقلاب حافظ الأسد بقليل، سرت بين الناس إشاعتان غريبتان من نوعهما، تقول الإشاعة الأولى إن حافظ الأسد بعثي، ولكنه لا يحب حزب البعث، وقد جاء إلى السلطة خصيصاً لكي يقصقص أجنحة البعث ويحوله إلى حزب عادي، لا قيمة له، والإشاعة الثانية مشتقة من الأولى، وهي أكثر غرابة منها، مفادها أن حافظ الأسد ناصري، ومتفق مع قائد الأمة العربية من الماء للماء جمال عبد الناصر على القيام بحركة تصحيحية، وبمجرد ما يستلم الحكم في سورية ستعود دولة الجمهورية العربية المتحدة، التي فصل عراها الانفصاليون الخونة سنة 1962.. والقائد الأسمر عبد الناصر، حينما كان على فراش الموت يوم 28 أيلول سبتمبر 1970، كان يغيب عن الوعي ويصحو ويسأل: هل حصل شيء في الشام؟ يقولون له: لا. فيغيب.. إلى أن سأله أحدهم: هيحصل إيه في الشام يا ريس؟ فابتسم، وتمتم بكلمات لم تكن مفهومة وقتئذ، ويوم 16 تشرين الثاني نوفمبر فُهمت والحمد لله.

على أساس هاتين الإشاعتين التافهتين، جرى استقبال شعبي حاشد لحافظ الأسد في إدلب، وصعد، برفقة مرافقيه ومؤيديه إلى سطح المركز الثقافي القديم، في ساحة هنانو، وبدأ بإلقاء خطابة حماسية ارتجالية، افتتحها بوصف أهل إدلب بأنهم أحفاد خالد بن الوليد وإبراهيم هنانو وحسن الخراط وعقيل السقاطي.. ثم راح ينتقد النظام البعثي الذي كان هو أحدَ أركانه الأساسية، أعني نظام 23 شباط، وأنجز معه هزيمة حزيران 1967، قائلاً إنه ذو عقلية مناورة، وإن مصلحة العشب العربي السوري الكريم كانت تقتضي أن يتدخل هو لتخليص الشعب المناضل من هاتيك العقلية.. وما هما إلا جملتان أو ثلاث، حتى جاشت عواطف الجماهير المحتشدة في الأسفل، وشاشت، وهاجت، وماجت، وزمجرت، وانقسمت إلى قسمين متبارزين متناحرين، قسم يصيح بعثية نزلت ع الشارع الله أكبر ع اللي يمانع، وقسم يصيح ناصر ناصر حبيب الملايين، وكان بين هذين الفريقين فريق شيوعي صغير، تجمع أفراده القادمون من سلقين وإدلب ومعرتمصرين، واعتلى أحدهم على كتفي رفيق له وصار يصيح (بالمقلوب):

جينا لنحمي المَيّة

لقيناها محمية

حاميها الأسمر جمال

بالأسلحة الروسية

ولكن صوت هؤلاء ضاع في زحمة التناحر البعثي الناصري الذي تحول إلى تضارب بعصي اللافتات، ثم بالحجارة، وبالأحذية، وما فتئ حافظ من الأعلى يصيح: أيها الإخوة المواطنون.. ولا أحد يرد عليه، وفجأة شلح أحد المتظاهرين فردة جاروخه الديري، وقذفها إلى الأعلى ببراعة صياد، ولو لم يبعد حافظ الأسد رأسه من مسار فردة الجاروخ لأصابته..

هنا عزيزي أبو أحمد نصل إلى بيت القصيد في المسألة.

قال: ما هو؟

قلت: حقد حافظ الأسد، وهو الذي عُرف بقوة الحقد فيما بعد، على محافظة إدلب، وعندما عيّن لهم زيد حسون محافظاً، وراح أهالي إدلب يشتكون من كونه لا يهش ولا يكش ولا يعض ولا يخرمش، انبسط حافظ الأسد وقال لهم في سره:

- عظيم جداً. ما دام زيدٌ هكذا، فوالله سأتركه جاثماً على صدوركم إلى يوم الدين.

(للحديث تتمة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...