دوغين... قراءة فلسفية لصراع الحضارات
يعتبر ألكسندر دوغين أحد أبرز المفكرين الروس المعاصرين، ومن أبرز منظري الفكر الأوراسي الذي يشكّل رؤية جيوسياسية وفكرية لروسيا في العصر الراهن. فهو ليس فيلسوفًا سياسيًّا فحسب، بل أحد العقول المدبّرة التي تمثل البعد الأيديولوجي للحرب الروسية. كما يمكن القول إنّ نظرياته توفّر الأساس الفكري للرؤية الروسية تجاه الغرب والعالم بأسره.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، ابتعدت المحادثات الغربية عن الأيديولوجيا، وركزت بشكل أكبر على المصالح المادية والقيم الليبرالية غير المحدّدة، لكن هذا النهج يهمل حقيقة أنّ القوى الكبرى المنافسة، مثل الصين وإيران وروسيا تنظر إلى التنافس مع الولايات المتحدة بوصفه صراعاً وجودياً بين طرق حياة مختلفة ورؤية حضارية "شرقية" مغايرة. وأما هذه الأنظمة فتشكّل الأسئلة الفلسفية والقيم الحضارية أساساً لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، وهو ما يغيب عن الكثير من التحليلات الغربية.
الحرب في أوكرانيا تعدّ واحدة من أكثر النزاعات التي تحمل طابعًا أيديولوجيًّا في العقود الأخيرة، ولفهم أبعاد هذا الصراع يجب إدراك الأيديولوجية التي تغذيه، أما عند الكثير من الروس، فهذه الحرب ليست نزاعًا إقليميًّا فقط، بل معركة وجودية يُعتبر النصر فيها ضروريًّا لبقاء روسيا باعتبارها حضارة. وفي هذا السياق يُصوّر دوغين الحرب على أنها تقدّم رؤية سياسية جديدة للعالم، رؤية يُعتقد أنها ضرورية لخلاص البشرية من الهيمنة الاستعمارية الغربية.
كما أنّ اغتيال داريا دوغينا ابنة ألكسندر دوغين، يعكس مدى أهمية دوغين وتأثيره على السياسة الروسية. فعلى الرغم من أنّ داريا كانت داعمة صريحة للغزو الروسي لأوكرانيا، تشير العديد من التقييمات الاستخبارية إلى أنّ الهدف الحقيقي من الاغتيال كان دوغين نفسه، في هجوم يعكس إدراك خصوم روسيا للأهمية الفكرية التي يمثلها في صياغة الأيديولوجية الروسية المعاصرة.
الانتصار الروسي في أوكرانيا لن يكون انتصارًا جغرافيًّا فحسب، بل سيكون إثباتًا لصحة الأيديولوجيا الروسية الجديدة
أهم ما يميّز فكر دوغين هو تمسّكه بما يُعرف بنظرية "الأوراسية"، والتي تنظر إلى روسيا باعتبارها قلبًا للعالم، يجب أن تقود تحالفًا واسعًا من القوى الأوراسية لمواجهة الهيمنة الغربية التي يقودها الحلفاء في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويعتقد دوغين أنّ روسيا لا ينبغي أن تكون جزءًا من النظام الغربي الذي تقوده أميركا، بل يجب أن تَبرز قوّةً جيوسياسية مستقلة، تستمد قوتها من تاريخها وثقافتها العميقة.
كما يؤمن دوغين أنّ روسيا تمتلك مسؤولية تاريخية وحضارية تجاه شعوب أوراسيا الأخرى، مثل الصين وإيران وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، في محاربة ما يعتبره "التحديث الليبرالي" الغربي، الذي يسعى لفرض قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان على بقية العالم، ويرى أنّ هذا النظام الغربي هو نوع من الهيمنة الثقافية التي تهدّد الهُوية الثقافية والسياسية للشعوب غير الغربية.
دوغين يُصوّر الغرب قوّةً مادية تهدّد الهوية الثقافية والسياسية للشعوب غير الغربية، فمن خلال نظريته الأوراسية، يسعى إلى تقديم روسيا زعيماً حضارياً قادراً على مواجهة الهيمنة الليبرالية الغربية. بالإضافة إلى ذلك، يرى دوغين أنّ نجاح روسيا في أوكرانيا سيكون نقطة تحوّل كبرى تُعيد تشكيل النظام العالمي بما يتماشى مع رؤيته. ومن خلال فهم فكر دوغين، يمكننا إدراك أنّ السياسة الروسية الحالية، خاصة في عهد فلاديمير بوتين، تتأثّر بشكل كبير بالأفكار الأوراسية، فبوتين رغم أنّه لا يعلن صراحة تبنيه لأيديولوجية دوغين، إلا أنّ سياساته تتماشى إلى حدّ بعيد مع هذا الفكر، ويشمل ذلك سعيه لإعادة التأثير الروسي على دول الاتحاد السوفييتي السابق، خاصة في مناطق مثل أوكرانيا وجورجيا، وحرصه على بناء تحالفات مع دول مثل الصين وإيران.
يُصوّر دوغين الغرب قوّةً مادية تهدّد الهوية الثقافية والسياسية للشعوب غير الغربية
علاوة على ذلك، تُظهر الحرب في أوكرانيا بوضوح مدى تبني هذه الأيديولوجيا في السياسة الروسية، فبوتين الذي وصفته العديد من التحليلات بأنّه يحمل رؤية جيوسياسية واسعة، يستخدم العنف العسكري لتحقيق أهدافه الاستراتيجية في هذه المنطقة، وهي أهداف تتوافق بشكل كبير مع الرؤية الأوراسية التي طرحها دوغين.
في الأخير، الغرب الذي يركز في الغالب على الأبعاد العسكرية والاقتصادية للصراع في حاجة إلى فهم الأبعاد الفكرية لهذا النزاع، والانتصار الروسي في أوكرانيا لن يكون انتصارًا جغرافيًّا فحسب، بل سيكون إثباتًا لصحة الأيديولوجيا الروسية الجديدة.