دوستويفسكي والتفكير عبر الرواية

25 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 15:46 (توقيت القدس)
+ الخط -
لا يُعرف في الآداب العالمية شخص شغلته الأسئلة الميتافيزيقية وتلبّست بروحه ووجدانه كما هو الحال لدى الأديب الروسي دوستويفسكي. ترتبط الأسئلة بالوقائع التي يواجهها البشر في الخارج، فهناك الشر والألم، والمتعة والرغبة، وهناك الحرية والوحشية، والزمن والكون. تحولت هذه الأسئلة على مر القرون إلى ألغاز تسكن الوجود البشري والكون بعامة.

لم يكن دوستويفسكي مثل كانط الذي حاول معالجة هذا النوع من القضايا برسم خارطة لاشتغال العقل وحرّره بذلك من صداع الميتافيزيقا، أو هيجل الذي جادل في الروح والوجود من خلال بناء نسق فلسفي لفهم العالم والعقل بعملية جدلية، إذ اشتهر بمقولته المشهورة: "كل ما هو عقلي واقعي، وكل ما هو واقعي عقلي". وحتى نيتشه الذي اشتبك مع الميتافيزيقا الغربية بمطرقته المشهورة، وبقلق متزايد نازع فيه الأخلاق المسيحية، وجادل القضايا الوجودية الكبرى بالرجوع إلى ما قبل سقراط وإلى التراجيديا والإله ديونيزوس إله النماء والخمر، وانتصر نتيجة ذلك إلى الفن والقوة ومتعة الحياة، واعتبر الوجود بكل آلامه وأفراحه لا يمكن تبريره إلاّ باعتباره ظاهرة جمالية.

واجه دوستويفسكي الأفكار الميتافيزيقية الحارقة التي داهمته في سن مبكرة بالكتابة، ولم تكن بناءً فكريًا أو نسقًا فلسفيًا، بل إبداعًا سرديًا فريدًا، فكان يفكر من خلال القصة والرواية، والأفكار والأطروحات كانت تتحرك داخل النص الروائي من خلال الشخصيات والوقائع. لم يناقش صاحب "الجريمة والعقاب" قضايا جديدة في الفلسفة، بل جلّ الأفكار والمعاني تعتبر كلاسيكية في التقاليد الفلسفية الغربية منذ الحقبة اليونانية إلى عصر الكاتب. وهذا جانب من العبقرية الغامضة التي شغلت معظم الكتاب والنقاد الذين عكفوا على بحث ودراسة ما خلّفه هذا "الكاتب، العصابي، الأخلاقي والمذنب" على حدّ وصف الطبيب والمحلّل النفسي "سيغموند فرويد" في مقالة خصّصها لرواية "الإخوة كرامازوف" التي اعتبرها أعظم إنتاج فني عالمي ومصدر كثير من المقولات في التحليل النفسي مثل اللاوعي وعقدة أوديب ومقولة قتل الأب، وانتهى فرويد إلى القول: "دوستويفسكي هو أول إنسان أعطانا فكرة عن الناس الذين هم نحن".

واجه دوستويفسكي الأفكار الميتافيزيقية الحارقة بالكتابة، ولم تكن بناءً فكريًا بل إبداعًا سرديًا فريدًا، فكان يفكر من خلال القصة والرواية

يمكن الإشارة إلى هذا التميُّز في الكتابة لدى دوستويفسكي والتي يحضر فيها طغيان القلق والحزن في سياق بوح وصراخ واضطرابات نفسية، وكل هذا يكون من خلال عبارات محسوبة بدقة تحيل إلى قضايا وأفكار عميقة حول الحياة وأزمة الوجود التي رافقت البشر منذ ظهورهم على وجه الأرض. ورغم زخم الأسئلة الوجودية التي تطرح في الروايات والأفكار الدينية والميتافيزيقية المتعددة، فإن دوستويفسكي لم يضحّ بالبعد الفني والجمالي في سردياته أمام تقرير أفكار وطروحات فكرية مهما كانت أهميتها، فكانت هذه الأفكار والمعارف النفسية الدقيقة للنوع الإنساني هي ما أثار الفيلسوف نيتشه وأقرّ بأن دوستويفسكي معلمه في المجال النفسي. تناثرت هذه المعارف من خلال المواقف الشخصية المعقّدة للأبطال المرضى والغامضين داخل الرواية، وكانت الفكرة لديه تنمو وتتشكل نتيجة القلق والصراع والحبكات المتعددة، فيكون لهذه الأفكار العمق والأثر الذي لا نجده في الخطابات الفلسفية نتيجة قوة المعمار السردي وحرارة التجربة الشخصية للكاتب والشحنات العاطفية الصارخة التي تصاحب خطاب الشخصيات مثل عبارات إيفان كرامازوف المثيرة.

في كتاب "تولستوي أو دوستويفسكي" للناقد والفيلسوف الأمريكي جورج شتاينر، يجري الكاتب مقارنة مثيرة لعملاقي الأدب الروسي في القرن التاسع عشر: تولستوي ودوستويفسكي، فيقول إن تولستوي يمتاز بالكتابة الملحمية، فهو أقرب إلى هوميروس في إلياذته الخالدة، فنص "الحرب والسلم" مثلاً، يحتاج لمساحة جغرافية واسعة وشخصيات كثيرة حتى أن القارئ ينسى البعض منها حين يتقدم كثيرًا في الأجزاء الأخيرة من الرواية. لذلك فكثرة الأحداث والوقائع والحكايات المرتبطة بها مع بناء الحبكات المتعددة والمتوازية تجعل من الرواية ملحمة بحقّ. ودوستويفسكي ينحو في أدبه منحى آخر يصفه شتاينر بالدرامي، فهو أقرب إلى شكسبير منه إلى هوميروس إذ يرتكز سرده على الصراع داخل النفس البشرية والصدام بين الشخصيات، ويكون السرد على طول عشرات الصفحات ميدانه مسارات ومنعرجات نفسية وأحوال معقدة لشخصية واحدة كما هو الحال عند البطل "روديان راسكولنيكوف" في رواية "الجريمة والعقاب". هذه الرؤية المقارنة التي يقدمها شتاينر تساعد على فهم وتأويل نوع الكتابة لدى دوستويفسكي، فالتوجه الدرامي والتركيز المضاعف على وضعية الشخصيات النفسية والاجتماعية يرفع من منسوب التأملات الفكرية والفلسفية لدى المؤلف، وتكون رواياته محطات لرؤى ومواقف فكرية وفلسفية عميقة.

دلالات
مصطفى بوخال
مصطفى بوخال
أستاذ محاضر بالمركز الجامعي مرسلي عبد الله بتيبازة/ الجزائر. يعبّر عن نفسه بالقول "البشر على الأرض يكتبون نصوص الأيام والليالي... يحكون، يفعلون، يتفرجون ويؤولون.. ويبقى العرض مستمر.."