دور المثقفين في سورية
مع سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سورية مرحلة إعادة تشكيل هُويّتها السياسية والاجتماعية، حيث أصبح الصراع يدور حول بناء دولة جديدة وسطَ تحديات أمنية، سياسية، واقتصادية معقّدة.
وفي هذه اللحظة التاريخية ينبغي أن يكون للمثقفين دور مركزي في توجيه المجتمع نحو المصالحة الوطنية، إعادة بناء الهويّة السوريّة، وصياغة مشروع ثقافي يواكِب التحوّلات الجذرية. ولكن، وكما كان الحال خلال سنوات الثورة والحرب، يبدو أنّ صوت المثقف لا يزال خافتًا أمام الضجيج السياسي والعسكري.
المثقف السوري بينَ إرث القمع وتحديات المرحلة الانتقالية
لطالما عانى المثقفون السوريون من قمعٍ ممنهج فرضهُ النظام السابق، حيث تحوّلت الثقافة إلى أداة دعايةٍ سلطوية، وتمّ تهميش الأصوات الحرّة أو دفعها إلى المنفى. لكن مع سقوط النظام برز تحدٍّ جديد أمامهم، وهو كيف يمكنهم التحرّر من إرثِ الخوف والصمت والمساهمة في بناء سورية جديدة؟
أصبح المثقف، إما محسوبًا على جهة معينة، أو متهمًا بعدم الواقعية عندما يطرح خطابًا يتجاوز الصراعات السياسية الضيّقة
البعض وجد نفسه محاصرًا بين تناقضات الماضي وتحديات الحاضر، إذ لم يكن كافيًا أن يكون المثقف معارضًا للنظام، بل كان مطلوبًا منه تقديم رؤية واضحة للمستقبل ومع ذلك، بدا الكثيرون متردّدين؛ إمّا بسبب الانقسامات الأيديولوجية، أو بسبب عدم امتلاكهم مشروعًا ثقافيًا متماسكًا يعكسُ تطلعات الشعب السوري في هذه المرحلة.
المثقف والمجتمع: هل انتهى عصر النخب؟
إحدى المشكلات الكبرى التي برزت بعد سقوط النظام، استمرار الفجوة بين المثقفين والمجتمع لعقود، إذ كانت صورة المثقف السوري في أذهان العامة أقرب إلى "النخبوي المنعزل" الذي يتحدّث بلغةٍ بعيدة عن واقع الناس، وبعد الثورة لم تتغيّر هذه الصورة كثيرًا، بل ربما تفاقمت مع تزايد الاستقطابات السياسية والطائفية، حيث وجد المثقفون أنفسهم في مواجهة تياراتٍ اجتماعية جديدة تعيدُ تشكيل المشهد من دون أن يكون لهم دورٌ قيادي فيها.
ومع تراجع الدور التقليدي للمثقفين، برزت منصاتُ التواصل الاجتماعي مساحةً حرّةً وجديدةً لإنتاج الخطاب الثقافي والسياسي، ما أتاح لأصوات جديدة الظهور. لكن، بدلاً من أن يؤدي ذلك إلى دمج المثقف بمجتمعه، وجدَ العديد من المثقفين أنفسهم مغيبين عن التأثير الفعلي، إذ تهيمنُ على الساحة أصواتٌ أخرى أكثر قدرة على مواكبةِ التحوّلات المتسارعة.
حرية التعبير مقابل فقدان التأثير
خلال السنوات الماضية، أنتج المثقفون السوريون في المنفى أعمالًا أدبية وفنية وفكرية كشفت عن معاناة الشعب وطرحت رؤى سياسية لمستقبل البلاد، لكن هذه الأعمال، رغم أهميتها، لم تجد طريقها إلى الداخلِ السوري بشكل فعّال، حيث بقي تأثيرها محدودًا بسبب الظروف الأمنية، والعزلة المفروضة على الداخل، إضافة إلى الهوّة المتزايدة بين المثقفين في الخارج والمجتمع السوري الذي يعيش تحوّلات متسارعة.
لا يزال أمام المثقفين السوريين فرصة لإعادة بناء دورهم في المجتمع
اليوم، مع انتهاء مرحلة الصراع المسلّح الكبرى، باتَ على المثقف السوري في المنفى أن يعيدَ التفكير في كيفية التواصل مع الداخل، لا باعتباره مراقبًا للأحداث، بل باعتباره جزءًا فاعلًا في إعادة تشكيل الثقافة السورية على أسسٍ جديدة.
المثقف في مواجهة القوى الجديدة: دور غائب أم مغيّب؟
بعد السقوط، لم تفسح القوى السياسية والعسكرية الجديدة المجال أمام المثقفين للمساهمة في رسم ملامح المرحلة الانتقالية، بل استمر تهميشهم لصالح مصالح حزبية وطائفية ضيقة جدًا. وكما كان الحال في ظل النظام السابق، أصبح المثقف إما محسوبًا على جهة معينة، وإما متهمًا بعدم الواقعية عندما يطرح خطابًا يتجاوز الصراعات السياسية الضيقة.
ومع ذلك، فإنّ مسؤولية غياب المثقف لا تقعُ فقط على القوى السياسية، بل أيضًا على المثقفين أنفسهم الذين لم يبادروا إلى تشكيل جبهة ثقافية موحّدة تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية، وتطرحُ مشروعًا ثقافيًا يعيدُ تعريف الهوية السورية بعيدًا عن الاستقطاب. فهل يمكن استعادة الدور المفقود؟
رغم كلّ التحديات، لا يزال أمام المثقفين السوريين فرصة لإعادة بناء دورهم في المجتمع. ولكن هذا يتطلب:
أولاً، كسر العزلة بين المثقف والمجتمع من خلال تبني خطاب واقعي يعكس هموم الناس، بدلاً من الاكتفاء بالنقاشات النخبوية.
ثانياً، المشاركة في إعادة بناء الهوية الوطنية على أسس تتجاوز الطائفية والانقسامات السياسية، والتركيز على مشروع وطني مشترك.
ثالثاً، تعزيز دور الثقافة في المصالحة الوطنية عبر توثيق الذاكرة الجماعية بموضوعية، والمساهمة في إعادة بناء الجسور بين الفئات المختلفة.
مسؤولية غياب المثقف لا تقعُ فقط على القوى السياسية، بل أيضًا على المثقفين أنفسهم الذين لم يبادروا إلى تشكيل جبهة ثقافية موحّدة تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية
ورابعاً، استخدام الأدوات الإعلامية الحديثة بشكلٍ أكثر فاعلية للوصول إلى السوريين في الداخل، بدلاً من الاكتفاء بتقديم الخطاب الثقافي في الدوائر المغلقة.
إنّ المثقف السوري اليوم أمامَ اختبار مصيري، فإمّا أن يكون فاعلًا في إعادة تشكيل سورية الجديدة، وإما أن يبقى متفرجًا على التحوّلات، كما كان الحال خلال السنوات الماضية.
سورية الآن تقف عند مفترق طرق، والمثقف السوري إمّا أن يكون أحد صانعي المستقبل، وإمّا أن يظلّ أسير تردّده وصراعاته القديمة. وكما قال الكاتب السوري ممدوح عدوان: "المثقف ضمير أمته، وعندما يصمت الضمير، يصبح المجتمع أشبه بجسد بلا روح".
الوقت لم يفت بعد، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحًا: هل سيتحرّك المثقف السوري ليكون جزءًا من الحل، أم سيظل شاهدًا على التحولات من دون أن يترك أثرًا؟