دمشق... بيضاء لا كدر يشوب صفاءها
بيضاء لا كدر يشوب صفاءها…
هكذا تبدو دمشق في عيني، طاهرةً من غبار الزمن، نقيّةً من أوجاع الغياب، حاضرةً في الوجدان، وإن غابت عن الأقدام. ما أقسى أن يطول الفراق، وما أبهى أن يبقى الشوق حيّاً يطرق القلب كلّ فجر، يستعيد رائحة الياسمين ووجوه الأحبّة، كأن الزمن لم يمضِ.
منذ أن غادرتها، لم تبرحني لحظة. تغيب كأنها تُرغَم، وتأتيني خلسةً في كلّ ليلةٍ، تسكنني من دون استئذان. دمشق ليست مدينة عابرة، بل معشوقة فاتنة، تكتسي قداسة الأرض وبراءة الروح. إليها أعود في كلّ حرف، وفي كلّ دمعة، وفي كل دعاءٍ يتعانق مع سماء بعيدة، لعلّها تحملني ذات يوم إلى حضنها من جديد.
لا تفتأ تعود إلى ذاكرتي قسراً مع كلّ صباح، تحرّكها أغاني فيروز التي تنساب مع أوّل رشفةٍ من فنجان قهوتي. كان صوتها يُعيدني دائماً إلى الأزقة القديمة، إلى حجارة الشام التي تحمل عبق التاريخ، وإلى وجوهٍ تركتها هناك تنتظر. كلّ صباحٍ كان طقساً صغيراً من الحنين، كأنني أجرّب العودة مراراً في الخيال قبل أن يمنّ عليّ القدر بفرصة اللقاء.
ما إن لامست عجلات الطائرة أرض دمشق، حتى شعرت أنّني ولدت من جديد. نزلت بخطواتٍ مُثقلة بالشوق، وحين وطئت قدماي ترابها انحنيت مقبّلاً الأرض، فانهمرت دموعي كغيثٍ طال انتظاره. في تلك اللحظة أدركت أنّني عدت، وأنّ الغياب انتهى، وأنّ كلّ لحظة كنت أترقب فيها العودة كانت مجرّد بروفة لهذه اللحظة العظيمة.
كلُ نافذةٍ خشبية تهمس باسم غائب، وكلُ نسمة ياسمين تُعيد إلى القلب دفئه الأول
لم يكن أمامي بعد عودتي سوى طريق واحد يقودني إلى قلبي؛ المسجد الأموي. هناك، حيث تختصر دمشق روحها في حجارةٍ عتيقة وصدى تكبيراتٍ يتردّد بين جدرانها، ولجت المسجد خاشعاً، أجرّ خطواتي كأنني أسير نحو حضن أمّ غابت عني طويلاً. سجدت على أرضه طويلاً، حتى اختلطت دموعي بترابه، وأيقنت أنّ الغربة انتهت فعلاً، وأنني عدت إلى أصل الروح ومنبت الحنين.
ومن المسجد الأموي خرجت إلى قلب دمشق القديمة، أتنقّل في أزقتها الحانية كطفلٍ عاد إلى حضن أمّه. كلّ حجرٍ فيها يروي حكاية، كلُ نافذةٍ خشبية تهمس باسم غائب، وكل نسمة ياسمين تُعيد إلى القلب دفئه الأول. كانت الأزقة تضجّ بالحياة، بالذكريات، بالألوان والروائح، وكأنّ المدينة كلّها كانت تنتظر قدومي لتستعيد تناغمها المفقود مع قلبي. كلّ زاويةٍ تروي قصّة، وكلّ خطوة تحملني إلى زمنٍ كنت أظنّه قد فُقِد، وكلّ همسة رياح تحملني إلى الماضي وكأن المدينة تعانق روحي. لم تكن جولةً عابرة، بل صلاة أخرى في معابد الذاكرة واعترافات حبٍّ لا ينتهي. وهناك، تردّد في وجداني ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي، فإذا بي أراه حقيقةً ماثلة أمامي:
آمَنتُ بِاللَهِ وَاِستَثنَيتُ جَنَّتَهُ
دِمَشقُ روحٌ وَجَنّاتٌ وَرَيحانُ.
هذا البيت يُلخص معنى أن تحبّ دمشق حبّاً جمّاً. وكيف لا تكون دمشق جنة الأرض، وهي التي ما إن تمشي في أزقتها حتى يسكنك نورها، وتملأ قلبك سكينتها، وتعيد إليك إحساسك بأنك كنت دائمًا هناك، حتى وإن بعدت عن المكان سنوات طويلة؟
في كلّ زاوية، وفي كلّ ركن، وفي كلّ رائحة عابرة، شعرت بأنني أتنفّس التاريخ والحياة معاً، وأنّ قلب الغربة قد عاد ليجد موطناً له بين جدران هذه المدينة العتيقة. كانت دمشق أكثر من مجرّد مدينة، كانت روحاً، جنّات، وريحاناً، كما قال أحمد شوقي، وكانت عودة الروح إلى البيت الذي لم يغادره قلبها يوماً. كلّ ضحكة طفل، وكلّ صدى خطوات على الحجر القديم، وكلّ رائحة خبز أو قهوة، وكلّ نافذة مفتوحة على شرفة صغيرة، كانت تأكيداً حيّاً أنّ دمشق كانت دائماً هنا، تنتظر عودتي، وتستقبلني كما تستقبل الأم ابنها بعد غيابٍ طويل.