دمشق/بيروت... ليتني كتبت التعهّد!
في سبتمبر/أيلول 2024 لم يكن الوقت مناسباً للسفر إلى بيروت قطعاً. فالحرب صارت خبرًا يوميًّا والمفاجآت غير السارّة أمرًا محتومًا، وهذا عدا عن الرطوبة الخانقة. ومع ذلك فقد كان مركز الحدود اللبنانية في المصنع في منتصف ذاك الشهر (سبتمبر/أيلول) مزدحمًا بشكل غير مسبوق . لم أشهد هذا الازدحام منذ الأعوام الأولى "للأحداث" كما نحبّ أن نطلق عليها في سورية تجنبًّا لأيّ سوء تفاهم مع أحد.
وقفت في دوري على باب الضابط المُناوب لأطلعه على وثيقتي النقابية، التي يسمح لي بموجبها الدخول إلى لبنان لفترة يحدّدها هو شخصياً. كان المكان ممرًّا ضيّقًا يسمح بدخول شخص واحد لأجل تختيم الأوراق. وكان عدد الموظفين الذين يدخلون ويخرجون غير محدود، وكان يتوجّب علينا أن نرجع إلى الوراء كلّ دقيقة لنسمح لهم بالمرور، وهم يتذمّرون، إمّا بالصياح أو بالنظرات الوقحة في كلّ مرّة.
معكم حق، نحن نقف في فراغكم الخاص، ونتمنى لو أنّ لنا مكانًا مخصّصًا للوقوف، ولكن سامحونا، أين نقف؟
جاء رجل وقطع الدور متخّذًا طريقه إلى غرفة الضابط، فقلت له وأنا أقطع الطريق: "بالدور لو سمحت"، وساندتني سيّدة كانت تقف ورائي. وهنا ظهر النقيب المسؤول فجأة، وأخذ يصيح بأعلى صوته أنّه لا يريد أن يسمع صياحاً. حاولت أن أشرح له المشكلة ولكن حدّة صوته علت أكثر وصار يهدّد ويتوعّد وأزاح الخطّ الواقف إلى الوراء ومرّر الرجل الذي تبيّن أنّه يجب أن يدخل قبل الجميع إلى غرفة الضابط المناوب.
ابتلعت كرامتي المهدورة وأنا أنظر بدهشة إلى الضابط. كانت ذقنه محلوقة بعناية ونظاراته الطبيّة ملمّعة ولا تشي بالوقاحة التي بدرت منه نحو سيدتين تقفان في طابور طويل تطالبان بالتعامل بعدالة.
كانت الأخبار تأتي من بيروت مفجعة كلّ لحظة أكثر فأكثر
عندما وصل دوري وأخذت موافقة الضابط المناوب على الدخول إلى "الجنة"، أسرعت لأتّخذ دورًا آخر على شبّاك ختم أوراق الدخول. كان الصفّ طويلًا والحرارة تزداد ارتفاعًا مع تقدّم النهار وازدحام المراجعين.
أوحى لي السائق الذي يرافقني بأنّه بالإمكان أن ندفع رشوة بسيطة لوسيط ونتخلّص من الدور فوافقت بدون تردّد. أوصى السائق الرجل وراءه أن يحتفظ له بالدور ورافقني خارج المبنى لنُقابل الوسيط.
أبديت الاستعداد لدفع مبلغ كريم لأنّ صبري بدأ ينفذ. لم يقبل الوسيط بالرقم وطالب بضعفه، وقال إنّ المبلغ المدفوع يحدّده الازدحام.
أشار عليّ السائق بالعودة إلى الدور وكان أمامنا فقط خمسة أشخاص. وهكذا وفرت مالي وعدت إلى الاكتظاظ والحر والرطوبة.
وخلال نصف ساعة قادمة، لم يتحرّك الدور بسبب مجموعة من جوازاتِ السفر التي أُعطيت للموظّف من وراء الزجاج، فأخذ يضرب عليها الأختام تحت عيون كلّ المنتظرين. وبدأت أتذّمر وقلت للموظّف لم لا تتبع الدور؟ وهذا ما أثار الصفّ المحتشد وبدأ الجميع يعترض على تجاوز الدور. وهنا ظهر النقيب اللطيف مرّة ثانية، وهو يصرخ: لسنا في سوق الخضار. سكوت.
وفي تلك اللحظة لمحني واقفة مع الحشد فوجّه الكلام لي شخصيًا: إذا لم تسكتي سأوقعك على تعهّد رسميّ. أخذت أفكّر في صيغة التعهد: أتعهّد بالصمت في حضرة الرشاوي.
أفكّر طوال الوقت بوجه النقيب الذي هدّدني بتوقيع تعهّد إذا لم أسكت، ببلاد لا تعرف ما هي أولوياتها، بأعراف تسمح لنا باستنزاف بعضنا البعض، وإرادتنا في الحياة مهما تدنّت نوعيتها
بقيت ساكتة طوال الطريق إلى بيروت كما وعدت بعد انفجار أجهزة البيجر بيوم واحد دون أن أتمكّن من إقناع ابنتي بالعودة معي.
لا أدري كيف تسارعت الأحداث وانهارت الأوضاع بين يوم وليلة. كانت الأخبار تأتي من بيروت مفجعة كلّ لحظة أكثر فأكثر. وهنا بدأت ابنتي التي أصرّت على البقاء تتراجع عن موقفها تحت وقع أصوات الانفجارات ورعب حكايا النزوح ومناظر الخراب وقصص الفلتان الأمني التي وصلت حتى باب بيتها. وهكذا أخذنا نخطّط لرحلة عودتها الاضطرارية بعد أن أمضت سنين دراستها الجامعية وانطلاقتها إلى الحياة العملية في مدينتها المفضّلة. كان اقتلاعها من بيتها ومجتمع أصدقائها وذكريات شبابها الأوّل يشبه مخاضاً متعسّراً جاء على عجل. لم تصدّق أنّ عليها ترك كلّ شيءٍ وراءها. لم تستوعب خطورة الظرف، وهي التي عاصرت الثورة وانهيار الاقتصاد وانفجار المرفأ وتعتبر أنها نجت من يوم القيامة بأعجوبة. لبيروت قيامات متعدّدة. ابنتي لم تعاصر الحرب الأهلية، ولهذا لم تصدّقني حين أخبرتها أن عليها أن ترحل قبل أن يُقطع الطريق وتضطر للعودة عبر طرق أصعب.
في ليلة السفر كانت تنشج وتبكي عبر الهاتف. طلبتُ منها أن تنام قليلاً. صحونا على أخبار ضربة إسرائيلية خلّفت خندقاً يشلّ تماماً معبر المصنع الحدودي. المعبر الذي كان منذ أيام يزدحم بالسوريين الداخلين إلى بيروت والضباط حليقي الذقن الذين يمارسون اضطهاداً غير مبرّر على مجموعة من الناس تدخل أراضيهم للسفر عبر مطارهم الذي سيُغلق الآن، أو مراجعة السفارات التي سيتوقف عملها الآن أو للتمتّع بشاطئ البحر الذي استوطنه النازحون من الجنوب الآن.
عادت ابنتي إلى دمشق بحقيبة ثيابها عن طريق طرابلس/حمص في رحلة استغرقت ساعات طويلة، والمعبر كان ما يزال مشلول الحركة. أفكّر طوال الوقت بوجه النقيب الذي هدّدني بتوقيع تعهّد إذا لم أسكت، ببلاد لا تعرف ما هي أولوياتها، بأعراف تسمح لنا باستنزاف بعضنا البعض، وإرادتنا في الحياة مهما تدنّت نوعيتها.
ثم جاء شهر نوفمبر/تشرين ثاني واشتعلت الحرب في سورية، وفُتح المعبر ثانية... واليوم أمامنا تحديات جديدة أيّها النقيب حليق الذقن، فقد نضطر للّجوء إلى جنتكم مجدّدًا. ليتني كتبت التعهّد من أوّل مرّة.