دعوا غزّة تلتقط أنفاسها وتحكي حكايتها

17 يناير 2025
+ الخط -

ما إن بدأت بشائر توقّف العدوان حتى تحلّقت الضباع حول الجريح الخارج لتوّه من أشرس المعارك مع الضواري، جسده مثخنٌ بالجراح، ولكن ما زالت عيناه تلمعان ببريق لا يخبو. وهنا شحذت الضباع أنيابها لنهش ما تبقى منه، ومع ذلك، ثمّة خوف دفين يضرب أعماقها؛ فرائصها ترتعد، وكأنها تدرك أنّ هذا الجريح، رغم ضعفه، يحمل في داخله بقايا من عنفوان لا قِبَلَ لها به، لذلك تقترب بحذر وبخطواتٍ متثاقلة، وهي تعلم علم اليقين أنّ الذي تقف أمامه ليس مجرّد فريسة عادية، بل أسد جريح لا يزال صدى زئيره يتردّد في أعماق الغابة السوداء التي أوجدها المجتمع الدولي.

في هذا الغاب بينما يَجرّ جو الإبادة الجماعية وبلينكن جزّار غزة ذيول الخيبة مغادرين إلى غير رجعة، تنشغل بقية غربان الخراب من القتلة والمتآمرين الآخرين بالتنقيب بين الركام، ليس بدافع الإعمار أو الاعتراف بمسؤولياتهم، بل سعياً وراء نهب ما تبقى، متجاهلين تضحيات أكثر من مليوني روح لأكثر من 468 يوم.  فبعد أكثر من ستة وأربعين ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، وقبل أن يلتقط ضحايا غزّة والناجون أنفاسهم المثقلة برائحة الموت والدمار، وقبل أن تهدأ صدورهم التي ضجّت بأصوات القصف وصراخ الفقد، تعلق الأرواح بين ليالي الألم التي نرجو أن تكون قد مضت ولحظة الرجاء التي تأبى أن تأتي حتى اليوم، وبين هذا وذاك تنشغل الأطراف المتورّطة والمتخاذلة خلال شهور العدوان الطويلة في محاولة "أخذ اللقطة" من خلال تشويه الحقائق وتقديم سرديات مصطنعة تسعى لتبرير أفعالها أو حتى إظهارها بصورة بطولية، ضمن نمط تعدى كونه مجرّد مناورة إعلامية أو سياسية رخيصة ليصبح جزءً من استراتيجيات ممنهجة تهدف إلى تبييض الصور السوداء والتبرؤ من الجرائم والسيطرة على ذاكرة المجتمعات وتعزيز الهيمنة، متناسين الضحايا والتضحيات الحقيقية، ومزوّرين الروايات بشكل يَحرم الضحايا والناجين حتى من القدرة على إيصال أصواتهم وصرخاتهم بعد توقّف العدوان.

إنّ غياب المحاسبة عن الجرائم التي ارتُكبت أثناء الإبادة الجماعية أو قبلها أو بعدها يُعزّز من ثقافة الإفلات من العقاب ويكرّس الظلم ويحوّل العدالة إلى مجرّد وهم. وبالتوازي فإنّ غياب الاعتراف الذاتي بالتقصير والتخاذل على المستويين الفردي والمؤسسي يؤسّس لثقافة جديدة، ثقافة ترسّخ نوعًا جديدًا من الوقاحة يغّلف بشعور الاستحقاق والسعي لتحقيق المكاسب على أشلاء الشهداء وأنقاض الأرواح. ثقافة تخلق بيئة سادية لا تُشجّع الحياد في القضايا الأخلاقية فحسب، بل تشجّع أيضًا المساهمة في التنكيل بالضحايا والتربّح من المعاناة. 

 لم يعد من المقبول الاستمرار في استغلال الضحايا والناجين وتحويل معاناتهم إلى مجرّد أدوات في خطاب التبرير أو تخفيف مسؤولية الجناة أو المتخاذلين

ولكن على الأرض في هذا العالم أن يدرك أنه لم يعد من المقبول الاستمرار في استغلال الضحايا والناجين وتحويل معاناتهم إلى مجرّد أدوات في خطاب التبرير أو تخفيف مسؤولية الجناة أو المتخاذلين، فهذا النوع من الاستغلال لم  يعد مقصورًا على مجرمي الحرب بل تجاوزهم لجماهير من شذّاذ الآفاق الذين التزموا الصمت طوال أكثر من خمسة عشر شهرًا في أفضل الأحوال، أو تآمروا بخسّة في أحوال أخرى، محاولين الارتقاء على أشلاء الضحايا، بدلًا من العمل الجاد والحقيقي لتقديم الدعم والمساعدة لهم.

إنّ الأثر النفسي للعدوان والإبادة الجماعية لن ينتهي بانتهاء العنف، بل سيستمر في تشكيل حياة الضحايا والناجين لعقود، هؤلاء الأفراد المجبرين على مواجهة معاناة مضاعفة، معاناة ستترك ندوباً عميقة على المستويين الفردي والجماعي، والتعافي من آثار هذه الجراح والندوب يتطلّب توفير بيئة تُمكّن الناجين من النهوض والقيام مجددًا بدلًا من المحاولات البائسة للتبرير والتزوير وسرقة اللقطة. 

ما إن تضع الحرب أوزارها، سيحتاج أهل غزّة إلى فرصة لالتقاط أنفاسهم. يحتاجون إلى دفن أحبائهم كما يليق بهم، إلى الحزن بحرية على من فقدوا، وإلى بناء ما تبقى من حيواتهم. لا يمكن لأيّ كلمات أو تعويض أن يمحو مثل هذا الألم، لكن ما يستحقه هؤلاء هو السكينة والسلام والحفاظ على سرديتهم، ليس منةً من هذا العالم الباغي، بل حقّ أصيل لهم وحدهم، اكتسبوه بالدم والنار، فلهم وحدهم فقط الحقّ في إعلان ما يشاؤون، ولهم وحدهم فقط الحقّ في رواية السردية كما يرونها، ولهم وحدهم فقط الحقّ في تقرير مصيرهم كيفما شاؤوا، وعلى بقيتنا العمل بجدية على مختلف الأصعدة لتحقيق المساءلة والعدالة وإعادة الإعمار ودعمهم كما يطلبون. 

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.