حُرّاس الجسد الأنثوي
إنّ النظام البطريركي الأبوي في مختلف المجتمعات والثقافات نصّب نفسه وصياً على أجساد النساء، وكان هدفه من ذلك أن يمحيها باعتبارها عاراً وعورة وفق منطقه، وأن يُخرسها لتسكتَ إلى الأبد. وفي العديد من الأزمنة والأمكنة، حُرِّمَ على الأجساد الأنثوية أن تحضر إلا برفقة حرّاسُها، الذين يُملون عليها، ويلقنونها الصواب والخطأ.
وحرّاس الجسد الأنثوي في المجتمعات العربية الأبوية البطريركية كثيرون، تبدأ المرأة بشمّ رائحتهم وملاحظتهم ما إن تبدأ بالاقتراب من مرحلة البلوغ، تكبر فيكثر هؤلاء الحرّاس، وتراقبُهم يتناسلون ويتوالدون حولها كقبيلة يأجوج ومأجوج، وتُشاهدهم يقيمون قيامتها كلّ يوم، وفي كلّ وقتٍ وحين.
في القصتيْن التاليتيْن، رصْد لحارسيْن للجسد الأنثوي، أخضعاه لرقابتهما الصارمة، ومارسا عليه سلطتهما الأبوية، أراداه صامتاً مستسلماً لجهله، وخانعاً مستسلماً لاستباحته.
القصّة الأولى هي قصّة "لا أحد يقول لها" من المجموعة القصّصية "كانت هي الأضعف" لنوال السعداوي، وتروي السعداوي فيها قصّة فتاة تقترب من مرحلة بلوغها، فتقوم أمّها بتنصيب نفسها رقيبة وحارسة على جسدها، وعلى كلّ حركاته وسكناته، يحضر جسد الفتاة في القصّة كجسدٍ جاهل بما سيحصل له، وبمرحلة البلوغ التي سيُقبل عليها، أمّا أمها فتحضر بصفتها شريكة متواطئة للجسد الصغير الجاهل بنفسه، فهي لا تُخبر ابنتها شيئاً عن بلوغها القادم، ويستمرّ صمتها هذا إلى الأبد.
نصّب النظام البطريركي الأبوي نفسه وصياً على أجساد النساء، وكان هدفه من ذلك أن يمحيها باعتبارها عاراً وعورة
تَصف السعداوي الأمّ حارسة جسد ابنتها بقولها: "الحياة خارج البيت أيضاً تخبئ لها خطراً غامضاً، وعينا أمها تتجسَّسان على جسدها؛ كل جزء فيه، وكل حركة، وكل خلجة، حين تجلس في حجرتها، وحين تنام في السرير، وحين تدخل الحمام، وحين تضع يدها على رأسها أو بطنها. شيءٌ ما سيحدث، شيء فظيع، شيء لا تعرفه ولكنها تريد أن تعرفه، مهما كان فظيعاً فإنّ عدم معرفته أفظع، وهي تريد أن تعرف كي تستعِدَّ، لكن أمها لا تريد أن تنطق، وهي لا تستطيع أن تسأل، كلُّ ما تفعله هو البحث في الخفاء؛ تحت السرير، في الدولاب، في الحمام، تحت ملابسها، بين أصابعها، في ثنيات جسمها، وقلبها الصغير ينقبض على نفسه في تخوُّف، وشفتاها الرقيقتان تتقلصان في توجُّس، وأنفاسها تتكوَّر في حلقها وتتصلَّب".
تستمّر السعداوي في سرد هواجس جسد الفتاة الصغيرة الجاهل بنفسه، والذي يحتاج إلى الأمّ، كي يعرف ويفقه ويتيقّن، وتُنهي القصة وهذا الجسد يقف على أعتاب انفجاره/ بلوغه، وهو غير مدرِك له، وحارسته الأمّ تنظر إليه وتراقبه وتتجسّس عليه، دون أن تنبس ببنت شفة!
أمّا القصّة الثانية فهي قصّة "جسدٌ ومشنقة" من المجموعة القصصية "محاولات للنجاة" لغسان نداف، ويروي نداف فيها قصّة امرأة سجينة، تُحيط بها جدران زنزانتها الانفرادية من جميع الجهات، ولا تجد أحداً تُحادثه وتتخذه صديقاً سوى فأر، تنتظرُ قدومه اليومي إليها، وتحزن كثيراً عندما يموت فداءً لأجلها عندما يأكل قبلها من طعام السجن الفاسد في إحدى المرّات.
وعلى عكس جسد الفتاة الجاهل بنفسه وبما هو مُقدم عليه في قصة السعداوي، فإنّ جسد المرأة في قصّة نداف يحضر بصفته جسداً مدركاً وعارفاً لنفسه، ولتفاصيل ما يحيط به، فهو يستمع إلى همهمات حارسي الزنزانة التي تُشبه فحيح الأفاعي، ويَعرف نيّتهما اتجاهه جيّداً.
إنّ حارسيْ جسد المرأة السجينة في قصّة نداف هما الحارسان والمُغتصبيان في آن، فهما يراقبانه، ويتلصّصان عليه، ويعرفان أنّه جسد امرأة وحيدة، فلا أحد يزورها، ولا أحد يراسلها أو يتواصل معها، أمّا جسد السجينة فهو الجسد الواعي بنفسه وبحدوده والذي يوقن أنّه لا مكان له في هذا العالم نظراً لوحدته "في الزنزانة أو حتى السجن كلّه لا مكان لجسد امرأة وحيدة"، والذي يُقرّر المواجهة والدفاع عن نفسه أمام نوايا اغتصابه من حارسيه.
جسد أنثوي يتدلى من حبل المشنقة، لأنّه تجرّأ ودافع عن وجوده أمام مغتصبيه
يصف نداف لحظة مواجهة جسد المرأة لمغتصبيه ويقول: "انقبضتُ على نفسي في زاوية الزنزانة، فكَّ حزامه وتركه يسقط أرضاً، لم أزل هناك في الزاوية فيما بدأ جسدي ينضح بالعرق وقلبي يصدح بنبضات سريعة وكثيرة، فكَّ زرَّ بنطاله الأول واقترب، أخذتُ زاويةً أخرى، لأحافظ على أكبر مسافة ممكنة بيننا والتي لا تتجاوز المتر، فكَّ زرَّه الثاني وبدأ جسدي يقشعرُّ ويرتجف من رأسي إلى أخمص قدميَّ، فكَّ الزرَّ الثالث فامتلأ صدري بشحنة من الاشمئزاز من كل شيء، فكَّ الزرَّ الأخير، سرقتُ حزامه عن الأرض وقمتُ بلفِّه حول عنقه فيما راح يزمجر كخنزير يختنق، أما الحارس الثاني فقد بدأ يدقُّ بصوت خفيف على باب الزنزانة، وأنا أشدُّ، هو يزمجر والآخر يدق وأنا أشد، رفع صوتَ الطرق بقوة وأنا أشدُّ بقوة أكبر إلى أن انطفأ صوتُ الخنزير تماماً وسقط أرضاً".
وإذا كانت قصة السعداوي تنتهي بجسدٍ أنثوي يقف على أعتاب حادثة انفجاره/ بلوغه وحوله حارسته الأمّ الصامتة، فإنّ قصّة نداف تنتهي بجسدٍ أنثوي يتدلى من حبل المشنقة، لأنّه تجرّأ ودافع عن وجوده أمام مغتصبيه، أو حرّاسه، فالقصّتان تختزلان في متنهما ملامح الحُرّاس الذين يُنصبّون أنفسهم أوصياء على الأجساد الأنثوية، أولئك الذين ينتمون إلى سلطة اجتماعية (ممثلة بالأم والعائلة)، أو سلطة سياسية (ممثلة بنظام سياسي فاسد وظالم)، ويفرضون حراستهم ورقابتهم على تلكَ الأجساد، يَحكمونها مستخدمين شرعية النظام الأبوي البطريركي الذي يمثلونه، ويكونون في فِعلهم التسلّطي كمن يغتصبها حقاً!