حين يسأل الوجود: هل أكون حقًّا؟

16 مايو 2025
+ الخط -

"أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة".
عبارة شكسبير الخالدة، التي نطق بها هاملت وهو يتأمّل في عبث الحياة وثقل الوجود، لا تزال تتردّد في أذهاننا اليوم، لا بوصفها مجرّد سطر مسرحي، بل بوصفها صرخة وجودية تنبع من أعماق الإنسان حين يتوقّف عند حدود الحيرة، وحين يتواجه مع أسئلته الأكثر جوهرية: هل أكون كما أنا؟ أم أكون كما يُراد لي؟ وهل يمكن أن أكون فعلًا، إن لم أكن على يقين من أنّ هذا الطريق هو طريقي؟

إنّ سؤال "أكون أو لا أكون" لا يتعلّق بالحياة والموت فقط، بل بالحضور الأصيل في عالم تتكاثر فيه الأقنعة، وتتراكم فيه المسلّمات. هو سؤال عن المعنى، عن الصدق مع الذات، عن الجرأة في مواجهة الفراغ الداخلي الذي قد تخلّفه الحياة حين تصبح عادة لا تجربة، حين نصبح انعكاسات لا ذوات، وحين نحيا من دون أن نعرف لماذا نحيا.

في قلب هذه الرحلة يقف الشك، لا كعدو للإنسان، بل كمعبر ضروري إلى الحقيقة. لم يكن ديكارت أوّل من شكّ، لكنه هو من وضع الشك على عرش المنهج العقلي حين قال: "أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود". فالمعرفة لا تبدأ باليقين، بل تبدأ بالاعتراف بعدم اليقين، وهذا ما أدركه سقراط قبل قرون حين أعلن: "الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا".

المعرفة لا تبدأ باليقين، بل تبدأ بالاعتراف بعدم اليقين

هذه الروح الشكّاكة ليست علامة ضعف، بل علامة حياة فكرية أصيلة. تمامًا كما قال المفكّر الإسلامي أبو حامد الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال": "إن الصبي نشأ على دين أبويه، ولو نشأ على دين المجوس لكان مجوسيًّا". بهذا الاعتراف، دخل الغزالي في أزمة وجودية حقيقية، أعاد فيها النظر في كلّ ما اعتقده مسلّمًا به، وخرج منها إلى يقين ناضج، لا يقين موروث.

اليقين ليس ما يُلقّن، بل ما يُنتزع من قلب الحيرة. هو ثمرة صراع داخلي طويل بين العقل والقلب، بين الواقع والمثال، بين الفرد والجماعة. وكما قال كارل ياسبرز: "الفلسفة ليست ترفًا، بل تجربة وجودية، يبدأ فيها الإنسان حين يصطدم بجدار الحياة". وكل من "يكون" حقًا، هو ذاك الذي رفض أن يُختصر في وظيفة أو دور اجتماعي، وقرّر أن يحفر طريقه الخاص نحو الحقيقة، وإن كلّفه ذلك عزلة فكرية أو مواجهة داخلية مؤلمة.

وفي زمننا الحالي، حيث تُهيمن السرديات الكبرى الجاهزة، من العقائد إلى الأيديولوجيات إلى ما يُسمّى بـ"النجاح"، تصبح الأصالة شكلًا من أشكال المقاومة. إننا محاطون بدفق هائل من المعلومات، وبتسويق يومي لأوهام السعادة والنجاح، حتى باتت الذات مهدّدة بالذوبان في ضوضاء الخارج. وكما قال جان بودريار: "لقد أصبحنا نعيش في واقع افتراضي يتكوّن من محاكاة للمحاكاة، حيث تختفي الحقيقة خلف صور لا تنتهي".

اليقين ليس نهاية الرحلة، بل هو لحظة ولادة جديدة

اليقين، في صورته الناضجة، ليس هو الاطمئنان الكسول ولا التسليم الأعمى، بل هو شجاعة الاعتراف بأنك لا تعرف، ثم سعي صادق إلى أن تعرف. وهو ما عبّر عنه الفيلسوف سورين كيركغارد حين قال: "الشك ليس نقيض الإيمان، بل هو شرط له".

فاليقين، إذن، ليس نهاية الرحلة، بل هو لحظة ولادة جديدة. هو الوقوف في العراء، بعد أن تمزّق الأمان الزائف، وبعد أن تسقط الصور الجاهزة عن العالم والذات. إنّه الوجود المتحقّق، الوجود الذي لا يرضى أن يكون تابعًا ولا مكرّرًا. وهو ما أراده سارتر حين قال: "الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًّا". وحريته لا تكون إلا في اختياره لمصيره، وفي اعترافه بأنّ وجوده مسؤولية لا قدر.

في عصر ما بعد الحقيقة، حيث العاطفة تهزم البرهان، والانتماء يحلّ محل الواقع الموضوعي، يصبح التفكير فعلًا ثوريًّا، والبحث عن الحقيقة مقاومة صامتة في وجه الضجيج. أن تقول "أنا لا أعلم" وسط طوفان من "الخبراء"، هو شكل من أشكال الأمانة الفكرية. وأن تراجع أفكارك، معتقداتك، انتماءاتك، هو أوّل الطريق نحو أن "تكون" كما يجب أن تكون.

كما يقول هايدغر: "الوجود الأصيل لا يكون إلا حين يختبر الإنسان قلقه الوجودي، ويقف أمام موته كإمكان حقيقي". ذلك القلق، لا بوصفه مرضًا، بل بوصفه وعيًا مرًّا يُنبت الحكمة، هو ما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش. فنحن لا نولد أحرارًا، بل نولد ممسكين بخيوط من صنع الآخرين، ولا نتحرّر إلا حين ندرك ذلك.

ختامًا، "أكون أو لا أكون" ليست صيغة للحسم، بل دعوة إلى الاستمرار في السؤال. أن تكون، يعني أن تسأل. أن تراجع. أن تشكّ. أن تُعيد النظر. أن تفكّر رغم الخوف، وتؤمن رغم الشك، وتستمر رغم عدم الوضوح. فالذين "يكونون" حقًّا، لا يمتلكون كل الإجابات، لكنهم يمتلكون شجاعة عدم التوقّف.

وكما قال نيتشه: "إن أعظم الحقائق، هي تلك التي نحملها جراحًا لا نظريات".

طرائف موسى
طرائف موسى
طالبة دراسات عليا في الجامعة اللبنانية بيروت/ العمادة، تخصّص فلسفة وتحضر الآن رسالة الماجستير مسار الإرشاد الفلسفي. عملت سابقا، كمعلمة في لجنة الإنقاذ الدولية وتعمل الآن عاملة توعية في لجنة الانقاذ الدولية.