حين تصوغ معتقداتنا مصائرنا

19 ابريل 2025
+ الخط -

في عالم النفس البشرية، يكمن الكثير من العُقد التي تنعكس بدورها على حياتنا وتغيّر أفكارنا. هذه العقد، الظاهرة أحيانًا والخفية أحيانًا أخرى، فُسِّر بعضها تفسيرات نفسية أو دينية، فيما بقي بعضها الآخر في دهاليز النفس إلى يومنا هذا، من دون تفسير واضح يُنهي المسألة أو يُسميها. وترتبط بعض هذه الألغاز بالأفكار، وتتغذّى بدعم العواطف. ومن أكثر هذه الألغاز غرابةً، التي يصعب حلّها، هي: كيف يمكن أن تتأثّر طبيعة حياتنا ومآلاتها بانطباعاتنا ومعتقداتنا؟

هذه الظاهرة ليست حديثة الاكتشاف، بل قديمة قِدَم الإنسان على هذه البسيطة، وقد تجذّرت في الموروث الإسلامي في حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، عن "التطيّر"، وما يمكن أن يُحدِثه من أثر في حال الإنسان، سلبًا أو إيجابًا، إذ قال: "من ردّته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك". وهنا يبرز سؤال جوهري: إذا كان التطيّر وحده قادرًا على التأثير في أفكارنا وتغيير مسار أفعالنا، فكيف يفعل ذلك؟ وكيف يمكن للإنسان اليوم أن يتعامل مع هذا "التطيّر الخفي" الذي يتولّد في داخله، ويستند إلى معتقداته وأفكاره عن نفسه، من دون أن يشعر، ومن دون حولٍ منه ولا قوة؟

بناء تصوّر سليم حول ذواتنا

من أكثر الإشكاليات التي كانت سائدة في الجاهلية، فكرة التطيّر والتنبؤ بالمستقبل، التي كان يُعتقد أنها تتيح للإنسان اختيار أفضل السبل أو تجنّب الأسوأ منها. غير أنّ الإسلام رفض التطيّر بجميع أشكاله، لما فيه من تعدٍّ على الغيب، وبناء القرارات على أوهام لا تستند إلى وعي أو علم.

ومع ذلك، ظلّ التطيّر حاضرًا، لكن بصورٍ أكثر خفاءً وتعقيدًا. ففيما كان التطيّر في الجاهلية ظاهرًا، أصبح اليوم يتسلّل إلى داخلنا من دون أن ندري، ونمارسه أحيانًا من دون أن نُسمّيه كذلك. الإنسان في لحظات تأمّله، ووسط سيل خواطره وأفكاره، قد يستند إلى تطيّر داخلي لا يدركه، بل يظنّه تفكيرًا منطقيًا أو تحليلًا عقلانيًا.

رفض الإسلام التطيّر بجميع أشكاله، لما فيه من تعدٍّ على الغيب، وبناء القرارات على أوهام لا تستند إلى وعي أو علم

ولذلك، فإنّ تصوّرنا لذواتنا يجب أن يُبنى على الرجاء في عطاء الله، لا على الضعف أو الهوان. ومع ذلك، ليس من التطيّر أن يرى الإنسان نفسه غير قادر على أمرٍ ما بسبب ظروفٍ واقعية؛ فهذا قياس واعٍ للأمور، لا استسلام للوهم. في المقابل، فإنّ التفاؤل الأعمى، أو "التطيّر الإيجابي" غير المبنيّ على قياس سليم، قد يكون كارثيًا على المدى البعيد.

فذواتنا تترجم أفكارنا ومعتقداتنا فقط عندما تكون هذه التصوّرات قابلة للتحقيق ومنطقية، ومبنية على معايير واضحة. وهكذا، فإنّ أيّ تصوّر واقعي لذاتنا يتطلّب توافقًا بين الإيمان الداخلي، والقدرة، والحساب، والقياس. وكما لا يمكن خوض معركة بالاعتماد فقط على عقيدة الجيش من دون توفّر العدّة والعتاد، لا يمكن أن نحيا ونُنجز مستندين فقط إلى الإيمان من دون أدوات تدعم هذا الإيمان وتُترجمه إلى أفعال.

وقد لخّص النبي ﷺ هذا التوازن بقوله: "اعقلها وتوكل"، أي إنّ على الإنسان أن يجمع بين الإيمان بالله، والتخطيط، والعمل، والاعتماد على الأسباب. وهذا هو النقيض الحقيقي للتطيّر، الذي يُغذّي تصورًا هشًا عن الذات مبنيًا على الخوف والتشاؤم أو الوهم والغرور.

الواقع يُترجم ما تعتقده

الإنسان في جوهره نتاج أفكاره، وهذه الأفكار تتحوّل إلى معتقد، والمعتقد يتحوّل إلى توجّه، ومن هذا التوجّه تبدأ ملامح الواقع بالتشكّل. إنّ هذه العملية النفسية المعقّدة تقودنا إلى حقيقة مفادها أنّ الظروف من حولنا تُعيد ترجمة تصوّراتنا عن أنفسنا. نحن لا نناقش هنا التطيّر بمفهومه الشركي الذي ارتبط بالجاهلية، بل نناقش ذلك التطيّر الذي يسكن داخلنا من دون أن نؤمن به صراحة، بينما تؤمن به أنفسنا ضمنًا.

في ظلّ هذه الحقيقة، يجب أن نبني أفكارنا من جذورها على قيم تعزّز حياتنا ولا تزيد من ضيقنا وتعاستنا. فحين يعبّر شخص ما عن قناعته بأنه الأجدر بمنصبٍ ما، ويُكرّر هذا المعنى في حديثه مرارًا، فإنّ ما يفعله هو تعزيز شعوره بالاستحقاق الداخلي، وهو شعور لا يمرّ من دون أثر. حتى وإن بدا للبعض كِبرًا أو موضعًا للسخرية، إلا أنّ أثر هذا "التطيّر الإيجابي" سينعكس، ولو بشكل غير مباشر، على من حوله.

إنّ تصوّراتنا لذواتنا، سواء أردنا أم لم نرد، هي نتيجة لأفكارنا ومعتقداتنا

إنّ تصوّراتنا لذواتنا، سواء أردنا أو لم نرد، نتيجة لأفكارنا ومعتقداتنا التي تنبض في رحم وعينا وتتغذى من عواطفنا. بعضها قد يتجسّد كحقيقة إذا آمنّا به من دون وعي، وبعضها الآخر لا يتحقّق إلا إذا اقترن بعمل دؤوب، وقياس منطقي، وحساب دقيق. فالإيمان وحده، من دون عمل، لا يغيّر شيئًا. وسنّة الله في الكون أنّ الترجمة مقرونة بالفعل، والفعل مرتبط بالحساب.

فمثال الجيش يوضّح أنه لا يمكن خوض معركة بعقيدة فقط، بل لا بُدّ من عدّة وعتاد. وكذلك، حين يؤمن شخصٌ ما بأنه الأجدر في موقعه، فإنّ مجرّد القول لا يحقّق الواقع، بل يتطلّب تكرارًا وفعلاً. والتكرار ذاته، حتى وإن لم يكن صادقًا تمامًا، قد يُفضي إلى واقع نفسي واجتماعي جديد.

ولهذا، لا بُدّ من الإكثار من تكرار ما نريده أن يتحقّق، شرط أن نُرفقه بعمل، وقياس، وإيمان متزن. لا يكفي أن نؤمن فقط، ولا أن نعمل فقط، بل نحتاج أن نحيا بعقل يقيّم، وقلب يؤمن، وجسد يعمل.