حوار الوطن المتناثر
في مقهى في مدينة إسطنبول، جلست الأسبوع الماضي أمام ثلاثة مثقفين سوريين، أحدهم من حلب ويعيش في ألمانيا، والثاني من دمشق لا يزال في وطنه، والثالث من درعا استقرّ في كندا. كان اللقاء عفوياً، لكن ما لفت انتباهي هو كيف تحوّل الحديث سريعاً من التعارف إلى نقاش عميق حول مستقبل الثقافة السورية. في تلك اللحظة، أدركت أننا أمام حاجة ملحة لبناء جسور حقيقية بين المثقفين السوريين، ليس للحديث فحسب، بل للعمل المشترك نحو نهضة ثقافية جديدة.
وبحكم عملي الصحافي، تواصلت مع عشرات المثقفين السوريين عبر السنوات الماضية. ما لاحظته أنّ معظمهم يعمل في جزر منعزلة، رغم تشابه أحلامهم وطموحاتهم. الكاتب في بيروت لا يعرف ما ينتجه زميله في برلين، والباحث في دمشق لا يطلع على أعمال نظيره في تورونتو. هذا التشتّت ليس مجرّد مشكلة تنظيمية، بل يمثّل هدراً حقيقياً للطاقات الإبداعية.
في إحدى المقابلات التي أجريتها مع أديب سوري مقيم في فرنسا، قال لي: "أشعر أحياناً وكأنني أكتب في الفراغ. لا أعرف من يقرأني من أبناء جيلي، ولا أعرف ما الذي ينتجونه هم أيضاً". هذه العبارة لخّصت لي حجم المأساة الثقافية التي نعيشها.
نحو منصّة رقمية جامعة
من واقع تجربتي في الإعلام الرقمي، أعتقد أنّ الحل يبدأ بإنشاء منصّة رقمية متطوّرة تجمع المثقفين السوريين من كلّ مكان. ليس مجرّد موقع إلكتروني عادي، بل فضاء تفاعلي يتيح التواصل المباشر وتبادل الأفكار والتعاون في المشاريع الثقافية.
التحدي الأكبر هو تجاوز الانقسامات السياسية التي تسلّلت إلى الوسط الثقافي السوري
تصوّرت هذه المنصّة وهي تحتوي على مكتبة رقمية شاملة للإنتاج الثقافي السوري المعاصر، وقاعة اجتماعات افتراضية للحوارات المباشرة، ومساحة للمشاريع التعاونية. المثقف في أيّ مكان يستطيع أن يجد شريكاً لمشروعه، وقارئاً لأعماله، ومحاوراً لأفكاره.
اللقاءات الدورية: ضرورة وليس ترفاً
لكن التواصل الرقمي وحده لا يكفي. نحتاج إلى لقاءات حقيقية، وجهاً لوجه. من هنا تأتي أهمية تنظيم مؤتمرات دورية تجمع المثقفين السوريين في مدن مختلفة. مؤتمر في بيروت يناقش قضايا الهُويّة، وآخر في إسطنبول يركّز على التراث، وثالث في أوروبا يتناول التجديد الثقافي.
شاركت في مؤتمرات ثقافية عديدة، ولاحظت أنّ أقوى النتائج تأتي من اللقاءات الجانبية والحوارات التلقائية. المثقفون يحتاجون إلى مساحات آمنة للتفكير بصوت عالٍ، وللاختلاف من دون عداء، وللتعاون رغم التباين في وجهات النظر.
بناء الجسور الثقافية ليس مجرّد ضرورة ثقافية، بل ضرورة وطنية
ولعلنا هنا نتساءل: ما التحديات التي ستواجه مثل هذا المشروع؟ من تجربتي، أرى أنّ التحدي الأكبر هو تجاوز الانقسامات السياسية التي تسلّلت إلى الوسط الثقافي. لكن أعتقد أن التركيز على القواسم المشتركة الثقافية والإنسانية يمكن أن يكون مفتاح الحل.
التحدي الثاني هو التمويل المستديم، لكن تنويع مصادر الدعم، من المنح الدولية إلى الشراكات مع المؤسسات الثقافية، يمكن أن يؤمّن الاستمرارية المطلوبة.
أما الفرصة الذهبية، فتكمن في الثراء الثقافي الهائل الذي يمتلكه المثقفون السوريون، وفي تجاربهم المتنوّعة، وفي حماسهم للمساهمة في بناء سورية الجديدة. هذه الطاقة إذا وُجّهت على نحوٍ صحيح، ستنتج نهضة ثقافية حقيقية.
استشراف المستقبل
يعتصر القلب ألماً حين نرى الطاقات الثقافية السورية مُبعثرة، لكن تطمئن النفس عندما نتخيّل هؤلاء المثقفين وهم يتعاونون في مشاريع كبرى: الموسوعة الثقافية السورية المعاصرة، ومشروع توثيق الذاكرة الثقافية، وإنتاج أعمال فنية مشتركة تعبّر عن التجربة السورية الراهنة.
إنّ بناء هذه الجسور الثقافية ليس مجرّد ضرورة ثقافية، بل ضرورة وطنية. المثقفون المتواصلون والمتحاورون سيكونون أقدر على المساهمة في صياغة رؤية ثقافية للدولة الجديدة، وفي تجاوز الانقسامات، وفي بناء هوية وطنية جامعة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نملك الإرادة والعزيمة لتحويل هذا الحلم إلى واقع؟ لو تأملنا قليلاً في تاريخنا الثقافي العريق، وفي قدرتنا على التجاوز والبناء، سنجد أنّ الإجابة تكمن في أيدينا وفي استعدادنا للعمل معاً من أجل مستقبل ثقافي مشرق لسورية الجديدة.