حلب بعد غياب أكثر من عقد عنها
زيارة خاطفة، بضع ساعات لا أكثر، لكنها كانت كافية لإدراك الحالة العامة لهذه المدينة العظيمة. فعلى الرغم من أنّني لم أكن أملك الكثير من الوقت، لكنّني لم أتحمّل حقيقة وجودي في سورية بعد كلّ تلك السنوت ولا أرى فيها مدينتي، حلب. لهذا عزمت على زيارتها ولو لساعات. أخذت مركبة عامة من سرمدا إلى حلب في الصباح الباكر، ليتملكني الحماس والتوتّر المهيب طوال الطريق، إذ أخيرًا سأرى المدينة التي حُرِمت من العيش فيها والدراسة في جامعتها. كانت سعادة هائلة انهارت أمام أوّل خطوة في باب جنين. ترجّلت من السيارة، وإذ بمشهد أشبه بالخيال لمدينة بيضاء، التهمتها أهوال الحرب وزاد من بؤسها وحش الفوضى الأمنية والمدنية.
كانت باب جنين في السابق مركزًا تجاريًا صغيرًا للباعة المتجوّلين ومحطة حيوية للنقل الداخلي. وعلى الرغم من ازدحامها المستمر، كانت تحافظ على تنظيمها المعقّد، وكأن كلّ من فيها كان يتحرّك حسب مسار مرسوم. لكنها اليوم غارقة بالنفايات والبسطات العشوائية لبضائع يتجاوز عمرها السنوات إلى جانب باعة الخضراوات، المتجوّلين والثابتين، بصراخهم الذي يفوق أصوات السرافيس والسيارات المارة في هذه البقعة المزدحمة التي تحيطها أنقاض المباني المدمّرة إثر قصف تجاوز عمره عشر سنوات أو أقل.
خلّصت نفسي من الزحام ورحت أراقب المشهد من بعيد. يوجد أمر غريب في هذه المدينة، وكأنما تطبع الناس بحالتها؛ ينظرون كالأنقاض، ويمشون كالأنقاض، ولا تجد منهم من يثرثر بأيّ حديث ولو كان جانبيًا لا قيمة له. بدوا يائسين من الجوع، صامتين، لا ينتظرون شيئًا، ولا يترقبون شيئًا. لطالما كانت البسطات الصغيرة في بقع كهذه ملجأ العائلات البسيطة ومحدودة الدخل التي تبحث عن احتياجاتها بأقلّ التكاليف، لكن اليوم يبدو أنّ الجميع تحوّل إلى باعة حتى لأغراضهم الشخصية بعد تجويع طال أكثر من عشر سنوات من الحرب.
قرّرت الاحتكاك بالناس وافتعال الأحاديث كي يتوضّح لي المشهد أكثر، فقصدت مكتبًا لتحويل العملات كي أصرّف بعض الدولارات إلى الليرة السورية. سألت رجلًا موجودًا في المكتب عن مبنى النفوس، وعما إذا كانت الدوائر الحكومية والمؤسّسات تعمل الآن أم لا، أجاب بأنه يعمل اليوم، فقاطعه رجل آخر بالنفي، وكلا الرجلين اقتصرا الإجابة على كلمة أو اثنتين لا أكثر. لا أحد يعرف حقيقة عمل الدوائر الحكومية والمؤسّسات في هذه المدينة، فالأنباء تقول إنّها ستعمل، أو تعمل بالفعل بعد اتخاذ الحكومة الجديدة عدّة إجراءات عاجلة بتسريح شرائح واسعة من الموظفين في مختلف المؤسّسات وإعطاء إجازات مفتوحة لموظفين آخرين، ضمن إطار حملة معالجة الفساد الذي كان متفشيًّا في السابق، لكن في الواقع لا يوجد أيّ عمل مؤسّساتي فعّال في حلب سوى الهجرة والجوازات التي تأخذ مئات الدولارات للجواز الواحد من أفراد جلّهم لا يملك ثمن خبز يومهم حتى. صرّفت أوراق عملة تركية أيضًا لأن العملة المتداولة في حلب هي الليرة السورية بينما يتطلّب الأمر عملات تركية للوصول إلى إدلب وما حولها. توجّهت إلى مبنى النفوس في السبع بحرات، نقطة الوصل بين حلب القديمة والجديدة. أذكرها جيّدا بنافورتها الرخامية البيضاء وأبنيتها التي تشبه القصور، والتي تحوّلت اليوم إلى أنقاض، سواد كالح بعدما كانت تشع بياضًا. تملكني أسى شديد مع كلّ مشهد في هذه المدينة وكأنّ الدمار الهائل وجوع أناسها لا يكفيان، إذ تغوص الشوارع أيضًا بتلوّث عنيف يزيد المعاناة سوءًا.
توجّهت من مبنى النفوس الذي كان مُغلقًا إلى مبنى الهجرة والجوازات، وطوال الطريق حاولت طرح عدّة أسئلة على السائق ولم ألق أيّ استجابة مريحة في نبرته، إذ كان يجيب على مضض وكأنه يطلب مني عدم سؤاله عن أيّ شيء يحدث الآن في هذه البلاد. يبدو على وجوه الناس هنا امتعاض شديد، وكأن صبرهم يكاد يفرغ من الفوضى وتسارع الأحداث الذي يحصل.
يناضل السوريون لاغتنام لحظات فرح تذكرهم بأنهم بشر عاديون يحقّ لهم التعلّم والاحتفال والمضي قدما
دخلت مبنى الهجرة والجوازات الذي كان مزدحمًا للغاية، وجّهني رجل أمن إلى امرأة كي تفتّش حقيبتي، كان من الجلي تماما أنّ هذه المرأة من آثار نظام الأسد الذي اعتاد إذلال الجميع كمعاملة عادلة، ولا عجب من بقاء هذه المرأة هنا، فلا تستطيع الإدارة الجديدة تغيير كلّ الموظفين أو استبدالهم بفترة قصيرة كهذه، لا سيما إن أرادت إعادة تفعيل بعض المؤسّسات الحكومية المفيدة بسرعة وإحصاء الموظفين الوهميين. في الطابور المخصّص للنساء، تكلّمت إلى السيدة أمامي حول الازدحام والإجراءات في المبنى، كانت مستجيبة ولطيفة للغاية في حديثها معي. عرّفتني إلى ابنتها التي كانت تُذاكر لامتحان مدرسي. ابتسمت المرأة وقالت إنها تعلم ازدحام هذا المكان فلا بُدّ من استغلال الوقت بأمر مفيد. أثار إعجابي مدى اهتمام المرأة بتعليم ابنتها وإصرار الشعب ككلّ على الاستمرار بالحياة والمضي قدمًا على الرغم من غموض الطريق، لكن يبدو أنّ الخوف يبقى سيّد الموقف، فعندما أشرت إلى تصرّفات المرأة التي في المدخل، لم تعلّق السيدة على الأمر، وفضّلت الصمت والالتفات إلى أمامها. سمعت عدّة أحاديث جانبية أخرى بيّنت خوفًا وعدم تصديق بأنّ النظام السابق قد سقط وانتهى وأنّ أيّ فرد الآن يمكنه الاعتراض والدفاع عن حقّه إن سلب. من الواضح أنّ الشعب الحلبي هنا يخاف السابق والآتي إلى حدّ جعل الناس تتصرّف بحذر ودقة خوفًا من أمر قادم مجهول يخافون أن يُشابه ما سقط.
خرجت من الهجرة والجوازات وتوجّهت إلى القنصلية التركية. وهنا أيضًا، ركبت سيارة تاكسي وحاولت الحديث مع السائق. كان صمت الناس أمرًا مثيرًا للدهشة، خاصة بالنسبة لسائقي التكاسي المعروفة عنهم الثرثرة في كلّ أمر مهما كان. لكن، وللمرّة الثانية، واجهت سائقًا صامتًا يردّ على أسئلتي بامتعاض، وكأنني أزعجت سُبات عقله ولسانه. لما وجدت مبنى القنصلية التركية مغلقًا في المحافظة، فضّلت المضي مشيًا على الأقدام فيما تبقى من زيارتي. مررت بكنيسة الفرنسيسكان وسمعت أصوات الطلبة في المدرسة المسيحية التي تجاورها، فشعرت للمرّة الأولى بروح المدينة وأنا أسمع أصوات الكنيسة وأقابل جامع الرحمن على الطرف الآخر من الشارع، وقد لامست وجهي شمس الشتاء الدافئة. أخذت نفسًا عميقًا وابتسمت للمارة وسمعت معزوفة مألوفة من أصوات السيارات، هي زفة عرس، ففرحت لرؤيتي ملامح حياة في هذه المدينة، رغم كلّ الظروف التي تدفع بالإنسان إلى الموت على قيد الحياة، يأسًا وأسفًا. هنا يناضل السوريون لاغتنام لحظات فرح تذكرهم بأنهم بشر عاديون يحقّ لهم التعلّم والاحتفال والمضي قدما.
تغيّرت جلّ النفوس والعقول بعد أن أصابها الاستبداد بالكثير من التشوّهات
توجّهت بعدها إلى شارع النيل نيّة لقاء منزلي في حي الخالدية الذي ولدت فيه، تلقاني أحد المارة وسألني عن وجهتي، فأخبرته وحذرني من الذهاب لأنّ الحي مرصود من قبل قناص تابع لقوّات سوريا الديمقراطية (قسد). اشتكى لي الرجل من تهديد القناصين حياته بشكلٍ شبه يومي، وحكي لي عن مدى خوفه من أن تصيبه طلقة ما فتودي بحياته ليبقى أطفاله من دون معيل، فيما يبقى قاتله من دون حساب، وحتى جثته من دون دفن أيضًا. تكلّم الرجل بحرقة رغم عدم معرفته بمهنتي صحافيةً، ورغم أنني لست معنية بالأمن هنا، لكن يبدو أنّه ضاق ذرعًا بهذا الأمر الواقع والمجهول حلّه. وبالحديث عن عناصر الأمن، أكاد أجزم أنني لم ألمح واحدًا منهم طوال فترة تجوالي في المدينة وأعتقد أنّ هذا ما يثير هاجس الناس وخوفهم أيضًا، إذ إنّ غياب السلطة تسبّب بالفلتان الأمني وانتشار العصابات وعمليات الخطف والسرقة بشكل بدأ يعيق حركة المدنيين في النهار والليل. بعد استماعي للرجل ودعائنا المشترك بحلّ الأمور العالقة، فضّلت البقاء على قيد الحياة وتوجّهت إلى الجامعة، حيث تحدثت مع عدد من الطلاب والمدنيين بطريقةٍ عفوية عن آرائهم حول الوضع الراهن وآمالهم المستقبلية لشكل الدولة وما تحتاجه المدينة أولويةً للعمل عليه. تلقيت إجابات متباينة أظهرت مدى رغبة الحلبيين باستعادة مدينتهم الضائعة، إذ تمحورت مطالبهم حول ضبط الأمن وحفظ النظافة وإعادة الإعمار وتجديد المباني والمؤسّسات، تكلموا بحسرة وحزن ورغبة شديدة بعودة مدينتهم حلب شهباءَ كما سُميّت من قبل.
كادت ساعاتي تنتهي في المدينة ففضّلت ختام الزيارة في القلعة وما حولها. توجّهت إلى خان الوزير ودخلت إلى مقهى هناك كي ألتقط أنفاسي وأستجمع ما مررت به اليوم. طلبت فنجان قهوة وجلست أكتب بعض الملاحظات حول ما سمعت ورأيت. خرجت من المقهى ومشيت حول القلعة. مررت بجادة الكوراني أو شارع الكوراني الذي سمّي نسبة إلى قصر فيه يعود لآل الكوراني، وهي إحدى أقدم العائلات الحلبية المعروفة بمكانتها الرفيعة ونفوذها أثناء الحكم العثماني للمدينة، من ثم عبرت الشارع إلى مسجد الحموي الذي بناه محمد بن داود النوري المغربي عام 1560 للميلاد، ودار الإفتاء والتدريس الديني التي أُنشئت عام 1886 على يد الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي نقيب الأشراف في حلب آنذاك. تخلّصت الدار من عشرات الأعلام والصور التي كانت تغطّي جمالها العمراني، مثلها كمثل باقي المعالم والشوارع التي ظهرت الآن كما هي بجمالها وتاريخها وهُويّتها وحريتها من دون تسميات أو نسبة لأحد. أدركت عظمة التحرير وشعرت بمعجزة وجودي هنا، فتلك الشوارع كانت لي ومني وأنا منها. ابتسمت وبكيت احتفالًا بها، انعطفت إلى الجانب الشرقي أمام القلعة ورأيت أنقاض حمام يلبغا الناصري الأثري إلى جانب ركام سراي حلب الكبير الذي كان مقرًا لحاكم حلب خلال الحقبة العثمانية ومن خلفه ما تبقى من مسجد ومدرسة السلطانية التي أسّسها الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي. دُمّرت هذه المنطقة الأثرية الساحرة بالكامل، وعلى مرّ السنوات، تبادلت عدّة أطراف الاتهامات بمسحها من تاريخ المدينة. تملكني شعور خانق بعد رؤية الدمار الهائل حول القلعة، هذا هو تاريخي وثقافتي وهويتي، أرى كلّ ذلك اليوم مدمّرًا بوحشية. بكيت بحرقة ولم أستطع إيقاف دموعي وانهياري، وما زاد المشهد أسفًا كان محاولة إظهار جمال القلعة المهيبة والاحتفال حولها وتجاهل ركام الحضارات على الطرقات.
على كلّ من يريد بناء هذا الوطن، أن يبدأ بإعادة إعمار المواطنين فيه
سألت نفسي كيف تبلّد الناس إلى هذا الحّد، ألا يشعرون بالخجل من الرقص أمام قبور تاريخنا هذه، لكن يبدو أنّ أنقاض الحرب لم تكن حجارة فقط، إذ تبيّن لي أنّ محاولة النجاة من ذلك النظام الوحشي تسبّبت في خروج أناس معجونين بأنانية مخيفة، لا يؤمنون أو يثقون بغيرهم، لا يطمحون بوطن ودولة تخدم مصالحهم، لا يؤمنون أنّ لهم حقوق أو واجبات، ولا يؤمنون بمفهوم الدولة والمواطنة كما بدا لي. صحوت من شرودي حين شعرت بمداهمة الوقت وتوجّهت إلى باب جنين للعودة. جلست في الحافلة ونظرت إلى الخارج مودّعة حلب، فشعرت وكأنني عدت بالزمن عشرين عامًا إلى الوراء، حيث المدينة والناس، بكلّ تفاصيلهم وهيئتهم وعقولهم، كأنهم حُبسوا في كبسولة زمنية. وبينما عَبَر كلّ ما حولها إلى المستقبل، بقيت هي عالقة في عقود سابقة من الظلم والاستبداد والحرمان.
طوال طريق عودتي فكّرت: ماذا أفعل؟ كيف يمكنني المساعدة؟ ما هو أهم ما تحتاجه المدينة؟
هو بناء إنسانها في الحقيقة، إذ تسبّب ضعف الوعي لدى السوري وإجباره على النأي بنفسه، والكفر بالشأن العام وتفريطه في الحقوق وقبوله بالاستبداد... في تحوّله من شريك في الوطن إلى رعية، تغيّرت جلّ النفوس والعقول بعد أن أصابها الاستبداد بالكثير من التشوّهات، لذا يتوجّب قبل كلّ شيء على كلّ من يريد بناء هذا الوطن أن يبدأ بإعادة إعمار المواطنين فيه، والعمل على إعادة اعتبار المواطن لنفسه، كي يفكّر ويتصرّف بصفته مواطناً حرّاً يمارس حقوقه ولا يطلبها أو يفرّط بها، مواطناً يسعى لخدمة الصالح العام مع معرفة وتقدير مكانته وتاريخه وثقافته كونه إنساناً سورياً.