حكاية طبيب

حكاية طبيب

13 أكتوبر 2020
+ الخط -

همس سعد الدين في أذن صديقه الطبيب عبد الإله، يُذكّره بموعد انطلاق البولمان السياحي المتّجه نحو مدينته، بعد زيارة قصيرة للعاصمة دمشق التي تخرّج قبل شهرين في كليّة الطبّ البشري في جامعتها، وقضاء حوالي عشر سنوات طالباً على مقاعدها، ونجاحه بدرجة امتياز بعد متابعة مستفيضة، ومحاولات جادّة من قبله ودعم أسرته الفقيرة له التي كانت بالكاد توفّر له مصروف جيب لإكمال دراسته، بعد وفاة والده الطاعن في السن الذي غادر الحياة الدنيا، بعد صراع مع مرض عضال كان يُعاني منه قبل سنوات، وهو الذي لا يملك من الدنيا سوى بضعة دونمات من الأراضي الزراعية التي كان يُنفق مردودها على أبنائه الصغار الذين يعيشون في فقر مدقع، ويقيمون في غرفة وحيدة مبنية من الطين الغشيم مع والدتهم، والتي تشغل محال صغيرة للخياطة النسائية، ويشهد عليها زبائنها في حُسن اختيارها الأنموذج، المتميّزة في قصّ الثياب وتفصيلها، بحيث تُلبي رغباتهن، وخاصة بالنسبة للنساء الكبيرات في السن.

نجاح عبد الإله في كليّة الطبّ، وتخرّجه في قسم طبّ العيون الذي كان يفضّله عمّا سواه عن بقية الاختصاصات الطبية الأخرى، على الرغم من أن العلامات التي حصل عليها تُؤهله للدخول إلى أي اختصاص طبّي آخر مهما كان شأنه، وتفضيل عبد الإله لهذا الاختصاص بالذات نتيجة عشقه له، وهو اختصاص نادر بالنسبة لأهل مدينته التي تعاني من نقص في الكوادر الطبية، رغم أنّه ليس بالأمر الهيّن، ويتطلب الدخول إليه تحصيل علامات عالية ليتاح للراغبين الدخول فيه، ومن بابه الضيّق، بسبب الإقبال المنقطع النظير على الدخول إلى هذا الفرع الطبّي الذي يرغب فيه الكثيرون من الخريجين من الجامعة لأهميته في حياة الناس..

كان لنجاح عبد الإله ميزة خاصة بين أقاربه وأصدقائه، وهو ابن القرية التي عاش فيها طفولته وبعض شبابه اليافع قبل توجهه إلى الجامعة والالتحاق بدراسة طبّ العيون.

قضى الطبيب عبد الإله أكثر من عشر سنوات من عمره في العاصمة دمشق لتحقيق حلم أبيه وأمه وأخوته الصغار الذين هم بحاجة له، ليساعدهم في إكمال دراستهم وانتشالهم من بؤرة الفقر والجهل الذي يُعانون!

بعد وصول الطبيب عبد الإله إلى قريته قادماً من العاصمة دمشق استقبلته والدته بشوق كبير، فضلاً عن أخوته وأقاربه الذين فرحوا به، وبنجاحه الذي انعكس عليهم كلية.

صار لمشفى الطبيب عبد الإله مكانته في المدينة، وأصبح دخله المالي يفوق دخل أي مشفى آخر، بل وأكثر من ذلك، ولم يبخل على أخوته بمساعدتهم مادياً، وأكمل أغلبهم دراسته الجامعية

الفرحة لم تسع صدر أمه وأخوته الصغار الذين كانوا ينتظرون قدومه وهو يحمل شهادة تخرجه، للتعبير عن فرحتهم التي كان تمنى لو أن والده حي يرزق لتكتمل فرحته، إلّا أن الحظ العاثر أن والده لقي حتفه قبل تخرجه من الجامعة بسنة واحدة، ما دفع بوالدته إلى أن تقوم على رعايته، وتوفير المال المناسب له حتى تمكن من إكمال دراسته.

جُوبه الطبيب عبد الإله بعد تخرجه من اختصاصه الطبّي الذي كان يحلم به، بمشكلة تأمين العيادة الطبية وهو غير القادر على شرائها، في الوقت الذي كان يأمل أن يكون له عيادته الطبية التي تتوافر فيها جميع المعدات الضرورية، على أن تليق به، وأن يكون موقعها في وسط المدينة أسوة بغيره من زملاء المهنة، إلّا أنَّ الواقع شيء والفقر الذي يُعاني منه شيء آخر، فهو لا يملك المال من أجل شراء العيادة الطبية التي كان يرغب فيها في المدينة، فاكتفى باستئجار غرفتين صغيرتين بصورة مؤقتة في القرية التي يقيم فيها من أجل ممارسة مهنته، مورد رزقه الوحيد، وقد ساعده في إكمال مشروعه الصغير أحد أبناء قريته المقتدرين الذي وفّر له المال اللازم، ناهيك بتأمين ما يلزم من معدات طبية لزوم العيادة.

بعد أيام من شراء المعدات الطبية، وتعليق اليافطة التي كتبت بخط الرقعة (عيادة الطبيب عبد الإله أخصائي طبّ العيون وجراحتها.. خريج جامعة دمشق)، باشر الطبيب عبد الإله عمله في عيادته الخاصة، مرتدياً معطفه الأبيض، وها هو الحلم الوردي تجسّد واقعا، وصار المرضى يرتادون عيادته في الليل والنهار دون توقف، واستمر على هذه الحالة، ولم يكتفِ بمعالجة أبناء قريته وأبناء القرى المحيطة بها فحسب، بل إن سمعته الطبية، وخبرته في عمله الذي يجلّه، دوّت في الآفاق، ما دفع بالمرضى إلى التوافد عليه من أبناء المدينة، ومن بقية المدن الأخرى للمعالجة..

تسابق المرضى على زيارة عيادة الطبيب عبد الإله في قريته التي يقيم فيها، ما شكل ازدحاماً ملفتاً في عيادته الصغيرة التي لم تعد تستوعب المرضى الذين صاروا يتوافدون عليها بالمئات يومياً، ما اضطر أغلبهم، وبسبب الزحام إلى البقاء مضطرين في القرية ليوم واثنين، ما دعا أحد المتنفذين من أبناء القرية إلى الإسراع في استثمار أحد البيوت التي يملكها وتحويله إلى فندق يؤوي المرضى وأهليهم المرافقين لهم الذين يظلون متأخرين لدى الطبيب، وهذا ما زاد من إقبال المرضى على الطبيب، ولم يكن هناك ما يمنع في تأخرهم في أخذ دورهم لدى الطبيب ما دام أنّه توافر المبيت في القرية التي يعمل فيها الطبيب المعالج.

في الفترة التي سبقت توسّع عمل الطبيب وازدياد عدد المراجعين المرضى من كل حدب وصوب، توافرت لديه المبالغ المالية التي مكنته من شراء عيادة ذات مساحة واسعة في مدينته التي تبعد عن القرية التي باشر فيها افتتاح عيادته الخاصة لأول مرة نحو ثلاثين كيلومتراً..

لم يتوانَ الطبيب عبد الإله في إشراك عدد من أصدقائه الأطبّاء العمل في العيادة الكبيرة التي جهزها لممارسة عمله الطبّي، إضافة إلى بقية الاختصاصات الطبية الأخرى، وكان موقع العيادة في وسط المدينة، ووفّر لها المعدات المطلوبة، وتحولت مع مرور الوقت إلى مشفى مصغّر، ومنها إلى مشفى كبير بعد التوسعة التي لحقت بها.

صار لمشفى الطبيب عبد الإله مكانته في المدينة، وأصبح دخله المالي يفوق دخل أي مشفى آخر، بل وأكثر من ذلك، ولم يبخل على أخوته بمساعدتهم مادياً، وأكمل أغلبهم دراسته الجامعية، وهيأ لهم الظروف المناسبة وانتشلهم من الفقر الذي كانوا يعانون، كما أنّه اهتم بشراء المزيد من الأراضي الزراعية بهدف استثمارها، وساهم في تأسيس عدد من الجمعيات الخيرية التي تقوم على مساعدة الفقراء والمحتاجين.

كان الطبيب عبد الإله، ابن الريف البسيط، جديرا بالاحترام والتقدير من قبل معارفه وأصدقائه، فكان مثابراً وجاداً في عمله الذي كان يُمارسه بروح الهاوي وليس بروح المحترف، فضلاً عن عدم توانيه في مد يد المساعدة لكل طالب حاجة، ودعمه لأهله وأخوته وأقاربه ولكل من عرفه عن كثب..

ومع مرور الأيام رشّح الطبيب عبد الإله لانتخابات مجلس الشعب، ونجح أيّما نجاح، وكان يُطالب باستمرار في تحسين الواقع الخدمي لمدينته، ونجح في ذلك.. فكان صوته مسموعاً في المجلس لأنه يتحدث باسم الناس العاديين المحتاجين، ويطالب بتوفير الحاجات الملحّة لأبناء مدينته، أضف إلى أنه كان مثقفاً كبيراً وقارئاً نهماً ومحبّاً للترحال والسفر.

كان نجاح الطبيب عبد الإله ملفتاً للنظر، ولم يُطالب يوماً، أو يسعى بأي طلب شخصي له أثناء عضويته في المجلس، بل إن جلَّ مطالبه تهتم في خدمة الناس، فارتأت الحكومة مكافأته بتكليفه وزيراً للإنشاء والتعمير، كما أنّه شغل منصب وزير للتعليم العالي، ووزير للصحة الذي نجح فيه، واستمر فيه لأكثر من ثلاث دورات متتالية.

حقّق الطبيب عبد الإله النجاح الذي يليق به، نتيجة جلده ومتابعته، وحبّه وإخلاصه للعمل الذي يقوم به، ونجح في جميع الأماكن التي شغلها، فأغدق عليه المال الذي لم يكن هدفاً بالنسبة له، وواصل عمله باجتهاد وتفان، ناهيك بتمتعه بأخلاق عالية، ووفائه لأصدقائه ومعارفه الكثر، وهذا ما زاد في نجاحه وتألقه.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.