حكايات من البلد (4)

حكايات من البلد (4)

02 ابريل 2021
+ الخط -

في القسم الأول من سهرة الإمتاع والمؤانسة؛ كان أبو الجود يحدثنا على رابع أبنائه "فيصل". قال إن أبناءه الأربعة الآخرين ورثوا الفقر منه، ورضوا بالنصيب (وارتاحوا وَيَّ الحبيب)، على حد تعبير ملك الحبال الصوتية المضروبة، جورج وسوف.

فيصل أراد أن يكسر قاعدة الفقر الحربنوشية (نسبة إلى قرية حربنوش) التي تتلخص بقول الواحد منهم: الفقر ناصب حواليّ دبكة! وخلال خدمة فيصل العسكرية، ابتسم له الحظ فتعرف على شاب محتال اسمه "عقبة"، يعمل تحت يد شبيح كبير من المنطقة الساحلية لا نعرف اسمه، ولكن، يقال إنه من عظام رقبة آل الأسد، ويعرف باسم "المعلم". وفيصل التصق بعقبة مثلما يلتصق لزاق الشعلة بنعل الصباط، وبقي يلح عليه حتى أخذه، ذات إجازة، لزيارة المعلم الذي قلما يقابل أحداً من الأنفار بنفسه، فطلب منه فيصل، وتوسل إليه أن يشغّله معه، عسى أن يخرج من وسط دبكة الفقر الحقيرة.

سأله المعلم: إنت من وين؟

فيصل: معلم، أنا من قرية البَلَّاطة التابعة لإدلب.

المعلم: ليك، في إدلب في مشاكل كتير، روح دبر حالك، شوف لك شي مشكلة كبيرة، وجيب لي ياها، أنا بحلها وبعطيك نصف المبلغ اللي بتتفق عليه مع صاحب المشكلة. منيح هيكة؟

فيصل: مو بس منيح يا معلم. الله وكيلك تحفة.

أبو الجود: إبني الواطي فيصل من فرحته نسي ما يقول للمعلم الجحش (بخاطرك)، وصار يركض وما يتلفت لورا، ولما نزل أول إجازة ما أجا لعندنا ع القرية، راح مباشرة على إدلب، وبلش يلوطش (يبحث يميناً وشمالاً على غير هدى) ويدور على شي مشكلة، صار يعقد في مقاهي ويدخل بين الناس في البازار.. ويسأل. في واحد نصحه يروح ع القصر العدلي، ويلطي هناك.. ومتلما قلت لكم، شاف رجل نازل من القصر العدلي وعم يبربر ويقول:

- هادا قصر العدل؟ علي الطلاق هادا لازم يسموه قصر السلبطة والاغتصاب، إدفع بتطلع، إرشي بتمشي.. يا ناس، يا عالم، يا هو، إذا كان معي حكم قضائي أكبر من ملحفة اللحاف، ومصدق من دائرة الاستئناف، معقولة من سنتين لهلق ما حدا بيرضى يحط لي هالحكم في التنفيذ؟

فيصل لحق الرجل لعند سيارته، وسأله:

- عمي، أنت أيش قصتك؟

الرجل تطلع في إبني فيصل، لقاه واحد طويل، معصمص، ورقبته رفيعة متل رقبة الديك الهندي، وزلعومته نابقة لقدام، وزيادة في القهر كانت فردة صباطه مشقوقة وطالعة إصبعتُه منها.. قال له:

- شوف يا عين عمك، إذا عم تشحد خود كم ليرة وحل عني، مشكلتي أكبر منك بكتير.

فيصل: بعرف إني مشكلتك أكبر مني بكتير. إذا القصر العدلي نفسه ما قدر يحلها، أنا بدي أحلها؟!

اندهش الرجل وقال لفيصل: لكان أشو بدك؟

فيصل: أنا باخدك لعند واحد كبير كتير، بيحل المشكلة بدقيقتين. بس الزلمة ما بيشغل عن روح والده، لأن والده بعده عايش.

ضحك الرجل باستخفاف، وقال لفيصل:

- فهمت عليك. يعني هلق أنت جاية تحتال علي؟ ولاك إنت شايفني أجدب ولا مهبول؟

فيصل: بكون عم أنصب عليك إذا قلت لك هات مصاري لحتى أحل مشكلتك. لا عمي لا، خلي المصاري تبعك في جيبك، نحن منحل المشكلة بعدين منقبض أجرة تعبنا. وعلى كل حال أنا حبيت أساعدك، وأنت حر.

تابع أبو الجود رواية الحكاية فقال: وتركه فيصل ومشي، وبعدما مشي خمس دقايق، وقفت سيارة جنبه، وفيها الرجل نفسه. صاح لفيصل (اطلاع جنبي لأشوف). فيصل طلع، والرجل ما حكى ولا كلمة، مشي بسيارته لحتى وصل ع ساحة البازار، ونزلوا الاتنين وقعدوا في مقهى حَمْشَدُّو، والرجل طلب أركيلتين، وكاسين شاي أكرك عجم. وقال لفيصل:

- ما راح أعطيك إسمي تبع الهوية، لكن أنا بينادوا لي أبو سمير..

فيصل: أهلين بعمي أبو سمير. أنا اسمي فيصل العبد المجيد من قرية البلاطة. هلق عم أخدم عسكرية، وترى ما إلي رتبة، أنا عسكري مجند ما بسوى فرنكين..

أبو سمير: ومع هيك بيطلع بإيدك تحل مشكلتي؟

فيصل: يا عمي أنا ما بعرف أشو هيي مشكلتك أصلاً.. اللي فهمته من كلامك إنك ربحان دعوى تحصيل حق من شي حدا، وما عم تحسن تحصّل حقك. المهم خليني إحكي لك قصتي من أولها، حتى تعرف شلون فيني أساعدك.. وبوقتها إنته حر.

وبعد ما حكى فيصل لأبو سمير عن معلم الشبيحة اللي تعرف عليه عن طريق العسكري عقبة، وشرح له شلون هالمعلم بيحل المشاكل وبيقبض عليها مصاري، عرض عليه فكرة إنه يعمل معه هلق اتفاق، والشرط إنه ما يدفع قرش سوري واحد قبلما ينحط الحكم في التنفيذ ويوصله حقه بالكامل.

أبو سمير: وبركي هادا معلم الشبيحة ساعدني، وحَصَّل لي حقي، وطلعت أنا نصاب، وما دفعت له المبلغ اللي اتفقنا عليه؟

فيصل: دير بالك يا عمي أبو سمير تعمل هيك. هادا الرجال لا تعلق معه. ترى عن جد بلوة.

أبو سمير: عم قول إذا..

فيصل: ما في داعي تعمل هيك شغلة أبو سمير. خلص عمي، إذا ما عجبتك هالشغلة ما منكون خسرنا شي، بالعكس أنا ربحت أركيلة وكاسة شاي من رجل كريم.

عندما وصل أبو الجود في حديثه إلى هذه النقطة تدخل كمال، وقال:

- أبو الجود هادا إبنك فيصل لمين طالع؟ عنده موهبة استثنائية في الإقناع.

أبو الجود: لا والله يا أستاذ، إبني فيصل متلنا، نص جحش ونص أهبل، والفقر ناصب حواليه دبكة، لكن الظاهر إنه جرب هالشغلة وظبطت معه.

أبو محمد: ظبطت معه؟ يعني حصل له حقه لأبو سمير وقبض مصاري؟

أبو الجود: نعم. طلع له بوقتها شي مية ألف ليرة. في السهرة الجاية إذا بتتحملوني بحكي لكم كيف تصرفنا بالمصاري.

(للقصة تتمة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...