حكايات الصور
في كل صورة ألف تفصيل، وألف تأويل، تقرأها كما تريد، وكل منا يراها بعين مختلفة ومن زوايا ومقاربات مختلفة أيضاً. لكن الصور القادمة من الساحل السوري المنكوب تقول حكاية واحدة رغم تعدد الوجوه، حكاية قتلى من الرجال والنساء والأطفال قُتلوا على الهوية الطائفية، تتعدد الوجوه والأسماء والأحياء والقرى، لكن الحكاية واحدة.
السؤال الغريب والجارح الذي يفرض نفسه، كيف يصور القتلة عمليات قتل الضحايا؟ لماذا يتم التصوير باعتيادية تبدو احتفالية وضرورية؟ وكيف يتم بث وتبادل الصور؟ هل يتم التعامل مع الصور هنا وكأنها جزء من المعركة؟ هل ترضي صور الضحايا العزّل المجردين من كل شيء إلا من الرعب العميق والكاسح، هل ترضي قاتليهم؟ نعم لقد تحولت الصور إلى ركن أساسي في المعركة، وباتت صنوًا بل ما يمكن تسميته جزءًا من التعريف بملتقطي الصور وناشريها.
ثمة خطاب مريع ينبغي تفكيكه للوصول إلى تفسير وفهم الخطاب المقدم بعلنية، بوضوح حاسم، مرفقاً بالابتسامات، مؤكَداً بالوعيد والتهديد للضحايا القادمين. وتفكيك الخطاب هنا ليس لغرض لغوي أبداً، بل لفهم السياق النفسي والعقلي الذي ولّد هذا الخطاب وعممه ووجهه نحو جمهور خاص رغم أنه يتناقص باضطراد وبات جزء منه يعترض عليه بشدة.
ينبغي إطلاق مسار عدالة انتقالية يعترف بكل الجرائم السابقة واللاحقة ويؤسس لمسار عيش مشترك بين السوريين والسوريات
بات ضرورياً، الخوض عميقاً في هذا السؤال، خاصة أنّ من يقتل اليوم يقدم نفسه على أنه قتيل الأمس! أي علاقة تبادلية تربط الضحايا ببعضهم؟ أي علاقة متوحشة موغلة في سرديتها العميقة ترسم حدود علاقة مستجدة قائمة على فائض القوة وعلى قاعدة أن قتلى الأمس باتوا القاتلين اليوم؟ وهذا لا يعني أبداً تبادل الأدوار وكأن ضحايا اليوم هم من قاموا بالقتل بالأمس، بل يجب وبشدة فك ارتباطهم عن القاتل الغادر الذي اختطفهم من قبل تحت مسمى طائفي، مع أنه هدر وجودهم وألحقهم بشر أعماله دون أن يمتلكوا خياراً بالرفض أو بالفرار إلا في ما ندر.
والسؤال الأكثر إلحاحاً، من يعوّض قتلى الأمس قانوناً وبالطرق الصحيحة؟ من يوقف القتلة اليوم ويعلمهم بأنهم خارج القانون، خاصة أنهم يقدمون أنفسهم أدواتٍ لتطبيق العدالة! العدالة الانتقامية، من يسحب السلاح القاتل من أيديهم؟ ومن يعيدهم إلى مراكز تحدد واجباتهم وتلزمهم بطبيعة عملهم لحماية السكان وليس لقتلهم؟ والجواب على هذا السؤال بيد السلطة القائمة أولاً وأخيراً.
الصور المريعة القادمة من هناك تتطلب وقف التجييش ولجم السعار الطائفي الذي يعيق ويلغي كل فرصة للمصالحة الوطنية المطلوبة فوراً، أو لطي صفحة الماضي القديم والماضي القريب الذي بات استمراره واقعاً ومهدداً للحياة في ظل غياب المحاسبة واللجم والإجبار على التوقف.
تحولت الصور إلى ركن أساسي في المعركة وباتت جزءاً من التعريف بملتقطي الصور وناشريها في حرب الهويات الطائفية
يبدو واضحاً، أن من يصور ويبث الصور لا يخاف من العقاب ولا حتى من الملامة. كما يبدو أن دوافع القتل مصممة بعناية ومدسوسة في الأدمغة وفي القلوب بعناية بالغة أيضاً، ليس في وعي وقلب القتلة فقط بل بعقول وإرادة المنكرين لجرائم القتل، بالمهللين مع عبارة (بيستاهلوا).
اليوم وكل يوم، ينبغي إطلاق مسار عدالة انتقالية تحاسب كل الجناة في الماضي وفي الحاضر. إن إطلاق مسار عدالة انتقالية يعترف بكل الجرائم السابقة واللاحقة، وحده من يؤسس لمسار عيش مشترك بين السوريين والسوريات، قد يساهم بطي جرائم القتل على الهوية الطائفية.
لا يكفي غض النظر عن الصور والعبارات القادمة من هناك بدعوى قسوتها البالغة وعدم التحمل، لأن الصورة اليوم باتت جزءاً من تأخير مسار العدالة، ولأن الصورة اليوم سلاح انتقامي بيد قاتل اليوم، هذا لا يعني وقف التصوير فقط، ولا يعني وقف بثها لأنها تحولت إلى أدلة دامغة على القتل والقتلة، بل يعني بصرامة وبمسؤولية وطنية صادقة وملزمة وقف القتل ومحاسبة الجناة فوراً.