حقوق الحيوان أولًا والموت لغزّة ثانيًا
في قاعة "كريستال" الفاخرة بفندق "رويال غراند"، حيث تتدلّى ثريات الكريستال مثل دموع مجمّدة، اجتمع صُنّاع القرار تحت شعار "حقوق الحيونات؛ أولويتنا الأولى". وحيث كان الرخام الإيطالي يلمع تحت الأضواء، وكأنّه يحاول جاهدًا إخفاء بقع الدم التي لا تُغسل.
المشهد الأول: طاولة النفاق الأوروبي
يعتدل جون (وزير أوروبي) في جلسته، يرفع صحيفة ويصرخ غاضباً: "هذا غير مقبول، كلب في برلين حُرم نزهته اليومية".
يرد عليه ريتشارد (رئيس منظمة حقوق الحيوان): "لقد أغلقنا حملة التبرعات بعد جمع مليون يورو لعلاج القطط المصابة بالصدمة".
في رُكن آخر، ينظر مارك (دبلوماسي أممي) إليهم بحزن، ثم يتمتم: "بينما في غزّة، الأطفال يشربون مياهاً ملوّثة بالصرف الصحي...".
(صمت مطبق)، ثم ينهض جون فجأة: "أقترح تشكيل لجنة دولية للتحقيق في معاملة الكلاب في أوروبا".
(تصفيق حار).
المشهد الثاني: غرفة الحرب العربية
بعيدًا عن الأضواء، في قاعة مغلقة ومؤمّنة جيّدًا، يجتمع وزراء عرب حول طاولة ضخمة من خشب "الأبنوس". تنتشر أمامهم وثيقة سرية بعنوان: "مشروع إعادة التوطين الإنساني - البروتوكول الذهبي".
الوزير الأول (يقرأ بصوت عالٍ): "المادة الـ 7: سيتم توفير خيام بيضاء تحمل شعار 'يد العون العربية'".
الوزير الثاني (يضحك وهو يشعل سيجارًا كوبيًا): "ولكن بشرط ألّا تزيد مساحة الخيمة على 2م² لكلّ عائلة، نحن لسنا دولة رفاهية".
الوزير الثالث (يضيف بينما يعيد ترتيب أزرار بدلته الفاخرة): "ونطلب من الإسرائيليين تزويدنا بصور جوية لـ 'تحسين جودة الخدمات'".
الوزير الأول (مبتسمًا): "المهم أن نصوغ البيان بشكل يُظهر إنسانيتنا... مثلًا: "بسبب الوضع الإنساني المتفاقم، قرّرت الدول العربية الشقيقة توفير ملاجئ آمنة للفلسطينيين مؤقتًا".
الوزير الثاني (بسخرية): "مؤقّتًا؟، هاهاها! مثلما كانت اتفاقياتنا مؤقّتة، ثم أصبحت دائمة".
الوزير الرابع (يخفض صوته): "ماذا عن ردود الفعل الشعبية؟ هناك تعاطف كبير مع الفلسطينيين".
الوزير الأول (وهو يشير إلى شاشة تبث قنواته الإعلامية الرسمية): "لا تقلق، نحن نتحكّم بالسرد؛ سنُظهرهم كمجموعة من الجاحدين الذين رفضوا مساعداتنا الكريمة".
الجميع يضحك، ثم يضغطون أزرار توقيع الوثيقة، وتُحسم القضية بجرّة قلم.
المشهد الثالث: كواليس المؤتمر
في القاعة الرئيسية، تُعرض حملة دعائية على شاشة ضخمة: "تبرعوا لإنقاذ كلاب أوكرانيا – 500 يورو تنقذ حياة".
في الزاوية اليمنى، تمُرّ أخبار عاجلة: "غزّة: مستشفى الأمل يخرج عن الخدمة بسبب القصف الإسرائيلي، ونقص الوقود والأوكسجين والمياه وارتقاء الكوادر الطبية والمرضى".
المذيع (بابتسامة واسعة): "عذرًا للانقطاع، نعود لمؤتمرنا الرئيسي عن حقوق القطط في الفنادق الفاخرة".
ليست كُلّ الكتابات تحتاج إلى خاتمة؛ فبعضها يترك الجرح فاغرًا وغائرا لكي لا ينسى العالم أنّه ينزف، وأنّ الغزّيين قُتلوا صبرا وهُجّروا قسرا
آدم، رجل حُرّ إنسان، ولا ينتمي إلى أيٍّ من هذه الأنظمة التي تنادي بالحُرّيات المكذوبة والإنسانيات المُعلّبة لتسويقها للعالم الثالث "المستوي"؛ يُراقب كُلّ شيء بصمت، قبل أن يتصفّح هاتفه المحمول، حيث تصل إليه رسالة قصيرة من طفلة في غزّة: "أنا ليلى، عمري 8 سنوات، قتل الجيش الإسرائيلي أمي وأبي وأُخوتي وكُلّ أسرتي. أبيع حجارة مدرستي المُدمّرة كي أحصل على بعض الطعام، إن وُجد. هل تريد واحدة؟ ثمنها 10 دولارات".
يُحدّق في الصورة: حجر صغير، مكتوب عليه بالطباشير: "هذا ما تبقى من مقعدي في الصف الثاني".
آدم (يكتب وهو يحوّل لها كل مُدّخراته): "خذي المال، ولا تبيعي ذكرياتك؛ هي التي يحُفّها الألم وترويها الدموع بأكثر من الماء المعدوم، فقد قصفت الصواريخ الإسرائيلية آخر بئر ماء في غزّة... لا تبيعي بنيتي ذكرياتك، فهي آخر ما تبقى لكم".
المشهد الرابع: العدالة العمياء
داخل الفندق، ترتفع أصوات الاحتفال: "نحن رواد حقوق الحيوانات".
يقف آدم بجانب النافذة، يشاهد المدينة الباردة التي يضيئها وهج الثراء، بينما يظهر على الشريط الإخباري العاجل على شاشة التلفاز خلفه: "عاجل: إسرائيل توسّع عملياتها العسكرية في غزّة، وارتقاء 500 فلسطيني؛ جُلّهم أطفال ونساء".
المذيع (ببرود): "تحذير: قد يحتوي هذا التقرير على مشاهد غير ملائمة".
المَشَاهِد؟
طفل يبحث بين الأنقاض عن أمّه. رجل يحمل طفلته الشهيدة؛ مبتورة الأطراف. أم تُمسك بيد رضيعها تحت الأنقاض.
آدم يهمس لنفسه: "غير ملائمة... لمن؟ لمن يعيشون هنا؟ أم من أجل ماذا يموتون هناك؟".
المشهد الأخير: الحقيقة المرّة
في الخارج، تمطر السماء، وفي غزّة تمطر السماء القنابل الإسرائيلية والصواريخ صناعة أميركية وألمانية. وداخل الفندق، يرفع الحضور كؤوسهم: "للعالم الحُرّ... ولحقوق الحيونات".
أمّا آدم، فيغلق هاتفه؛ ينظر إلى لوحة المؤتمر المكتوب عليها: "معًا نبني عالمًا أفضل للجميع".
ثم يتمتم: "للجميع...؟ إلّا لمن لا يملكون حتى حجرًا في غزّة ينامون عليه".
وأخيرًا، ليست كُلّ الكتابات تحتاج إلى خاتمة؛ فبعضها يترك الجرح فاغرًا وغائرًا لكي لا ينسى العالم أنّه ينزف، وأنّ الغزّيين قُتلوا صبرًا وهُجّروا قسرًا.