"حسن صبي"

11 ابريل 2025
+ الخط -

كان من المفروض أن يكون اسمي حسن، على اسم جدي لأبي. مع أنّ الوالد أنجب صبياً قبلي، إلا أنه لم يسمّه حسن، لأنه لم يكن يرغب في أن يُكنّى بكنية ذات رنين ديني. أراد اسماً لأخي مُستوحىً من اسم العائلة: مطر، فسمّى بكره ربيع. أبو ربيع، جميل. هكذا فكّر: ربيع مطر سيكون اسم ابنه الأوّل، بعد أن سمّى مولودته الأولى سحاب. أمّا ما يخص اسم والده، وهو كان وحيده، فقد عزم على تكريمه بي أنا لو وُلِدت صبياً. لا بأس حسن يأتي بعد سحاب وربيع مطر. لن يشوّش كثيراً على طقسنا العائلي.

لكني أتيت ولم يأت حسن بعد ذلك أبداً. 

ديمة سمّاني. وأزعم أنّه كان مسروراً لأنه لم يُجبر على تسمية أحد منّا باسم والده. فالله أراد أن لا يأتي حسن، ذلك أنّ المواليد الذين تلوني، كنّ من البنات. هكذا أصبحنا عائلة من: سحاب، ربيع، ديمة، ندى، وغيث (نعم غيث لأنّه رأى أنّ الاسم ممكن أن يؤنّث). 

كنّا عائلة أشبه بالنشرة الجوية. وكنت كلما أبدى أحدهم دهشته وإعجابه من توافق معاني اسمي وكنيتي، أجبت ساخرة: لا تنسَ عندما نلتقي أن تحمل معك مظلّة. 

لكن، وإن كان يُقال إنّ لكلّ شخص من اسمه نصيباً، فربما الأصّح أن يُقال إنّ النيّة لها نصيبٌ أيضاً، وهو نصيب أصاب طبيعتي على ما يبدو وأنا في بطن أمي. فقد كان وصفي بعبارة "حسن صبي" في طفولتي، وهي تُقال للفتيات اللواتي يشبهن الصبيان إن لم يكن بالشكل فبالاهتمامات، أصدق بألف مرّة من أيّ وصفٍ آخر. "توم بوي" هو المعادل بالإنكليزية، أي إن "توم" هو حسن بالأجنبية.

إنّ الصبيان والفتيان ملوك "الخارج"، أسياد الشارع الطلق، أما نحن البنات؟ فقد كانت البيوت معدّة لنا، وكان ذلك يخنقني. 

وفي الحقيقة، أحببت كثيراً حياة الصبيان لا حياة بنات جنسي. كنت بمكانٍ ما أهرب من "مستلزمات" حياة البنات التي كنت أبغضها: مساعدة أمي بالتنظيف أو بالكي أو الطبخ، أو حتى بمرافقتها لزيارات الجيران التي كانت مملّة حتى الموت عندي، بأحاديثها المُفتعلة التي كانت تختبئ في طياتها مباريات بين الأمهات في الشطارة وحسن التدبير مثلاً. حياة البنات في عائلة محافظة، في بلاد تفترسها الحرب الأهلية الطائفية، بلاد طفولتي.

هكذا، كنت أفرّج عن نفسي حين نغادر المدينة بعد إقفال المدارس صيفاً، لنعود إلى القرية في الجبال، حيث الأشجار والبرية والينابيع والانطلاق. وبما أني كنت ما زلت صغيرة، فقد كان مسموحاً أن أذهب أينما عنّ لي. 

في المدينة أو في القرية، أحببت رفقة الصبيان وتسلياتهم: بناء خيمة من أغصان الشجر فوق السطح والسهر فيها معهم، صيد العصافير بالنقيفة (المقلاع) وشيّها أيضاً أحياناً على نار نوقدها ونشخص إلى لهيبها كالمسحورين، لا نستطيع تحويل أنظارنا كما فعل الإنسان الأوّل يوم اكتشفها على الأرجح. سرقة السجائر من صينية الضيافة التي كانت دارجة وقتها، توضع عادة على الطاولة وسط غرفة الاستقبال، ثم تدخينها بعيداً عن العيون بين الصخور البركانية الضخمة المتخلّفة عن بركان انفجر في عصورٍ سحيقة في قريتي، وخلّف لنا نبع الماء الغزير المتفجّر من باطن الأرض. اصطياد الزيزان الذهبية من بين الكريات الشوكية البنفسجية لحبسها في علب الكبريت بعد ربط أرجلها بخيط ثم تطييرها في سباق بيننا، وحتى تصيّد الفئران ونصب الفخاخ بالدبق للعصافير. 

أحببت كلّ شيء في حياة الصبيان. حريتهم، لامبالاتهم باتساخهم أثناء اللعب، ملابسهم المريحة، قصّة شعرهم، ساعة عودتهم أو لا عودتهم إلى البيت. بقيت كذلك إلى أن كبرت، ولم يعد مسموحاً لي أن أرافقهم، خصوصاً أنّ بعض الرفاق بدؤوا ينظرون إليّ نظرتهم إلى أنثى بازغة... فصرت أتحجّج بأيّ شيء لأخرج من المنزل، للفرار قليلاً، بعيداً من الحياة المعدّة لمثيلاتي، الحياة المناسبة للإناث. كأنّ الصبيان والفتيان ملوك "الخارج"، أسياد الشارع الطلق، أما نحن؟ فقد كانت البيوت معدّة لنا، وكان ذلك يخنقني. 

أحببت الشارع. كان كلّ ما فيه يغريني. إن كان شيئاً يؤكل، أسارع إلى تذوّقه، وإن كان شيئاً للفرجة، أتسمّر أمامه

ودائماً ما كنت أنبهر بوجود الرجال في الشارع. حتى الصغار منهم، أي الصبيان والفتيان. كانوا يعرفون الجميع، كما لو كان الشارع هو البيت. وعندما كنت أدخل برفقة أحدهم إلى مقهى أو حتى عندما كنا نمرّ من شارع ما في الحي، كانوا يحيّون الجميع بأسمائهم، وكان يُردّ عليهم تحيّتهم بأسمائهم أيضاً، مع استفسار عن الصحة والأحوال. كان الشارع بكلّ ناسه غرفة استقبالهم، ملعبهم، وجزء من هُويّة رجولتهم. عكس البنات، اللواتي كنّ، مثلي، يعبرن فيه فقط من بيت إلى بيت، أو من بيت إلى مدرسة. 

كان أهل الحي يعرفوننا. هذه ابنة فلان الفلاني، وهذه رفقة ابنة فلان الفلاني. كانوا يعرفون عنا كلّ شيء تقريباً، ماذا يفعل آباؤنا وإخوتنا الصبيان. من تزوّج، ومن لم يفعل، من اشتغل ومن ما زال يدرس. لكن ذلك الفضاء الواسع كان ممنوعاً علينا. 

وكان كل الرجال، حتى الذين لا نعرفهم، حرّاس هذه الحال.

كانت البيوت ملعبنا، لكنها كانت ضيقة عليّ. هكذا، أحببت الشارع. كان كلّ ما فيه يغريني. إن كان شيئاً يؤكل، أسارع إلى تذوّقه، وإن كان شيئاً للفرجة، أتسمّر أمامه، وإن كان شيئاً غامضاً، فلا أتردّد لحظة في السؤال. أحببت الشارع كما أحببت حياة الرجال فيه. فأخذت أفعل فعلهم فعاد الناس لتلقيبي بحسن صبي.

لكن الشارع لم يعد كما كان أبداً، وأنا كذلك. اليوم أبتعد عنه كما تبتعد عن وباء. قد أبقى في منزلي أيّاماً لمجرّد تفادي التوتّر. أصبح الشارع، في ظلّ كلّ ما يحصل لنا ضيّق الخلق، ينفجر بالصراخ لأتفه الأسباب، يتحدّث بصوت عالٍ كما لو كان مصاباً بالطرش، وقد تصل الأمور إلى استخدام السلاح، إن كان كلاما فظاً أو سلاحاً حقيقياً.

اليوم لم يعد يهمّني أن أكون حسن صبي، صرت فقط ديمة. ديمة مطر. تنهمر الدموع مني كما لو كنت ديمة حقيقية مُتخمة بالمياه. لم أكن يوماً أشبه اسمي أكثر من اليوم. لكن كم كان أبي ليحزن لو رآني اليوم كذلك.