حرية التعبير في المغرب.. بين المعايير الدولية ورهان الحفاظ على الوحدة الوطنية
أثارت تصريحات رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، عزيز غالي، حول قضية الصحراء المغربية، جدلًا واسعًا في المغرب. جدلٌ جاء التعبير والردّ عليه من طرف المواطنين والفاعلين المدنيين والإعلاميين، عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية، وذلك بسبب تصريحه بأنّ الجمعية التي يترأسها "تدعم الوصول إلى حل تفاوضي يرضي جميع الأطراف" في قضية الصحراء.
وأضاف السيد عزيز غالي أنّ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في مؤتمرها الخامس كانت مع تقرير المصير في الصحراء، وبعدها مع جلوس المغرب إلى طاولة المفاوضات، وأصبح موقفها دعم حلّ تفاوضي يرضي جميع الأطراف ويجنّب المنطقة الحرب.
ويعود النقاش الذي أثارته تصريحات المعنيّ بالأمر في برنامج حواري منشور عبر صفحات موقع "عربي21"، إلى كون قضية الصحراء تحظى بإجماع شامل بين مختلف القوى المدنية والسياسية والمواطنين. فالمغاربة يعتبرون الدفاع عن وحدتهم الترابية جزءًا لا يتجزّأ من وجدانهم وهويتهم الوطنية.
واتجه النقاش والجدل الكبير الذي أثارته تصريحات رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، من طرف النشطاء والإعلاميين، وحتى المواطنين، نحو رفض منطق التجييش ضدّه أو معاقبته بسبب تعبيره عن رأي مخالف، رغم أنّ الأغلبية الساحقة منهم انتقدوا وأدانوا المواقف التي عبّر عنها بحدّةٍ شديدة. وهذا يُعدّ مكسبًا مهمًا للحوار في الفضاء العمومي مهما كانت حساسيّة القضايا التي يجري تناولها من طرف الجمهور بالنسبة إلى الرأي العام الوطني.
الدفاع عن الوحدة الترابية للمغرب جزء لا يتجزأ من وجدان المغاربة وهويتهم الوطنية
وفي الواقع، تطرح تصريحات غالي إشكاليّةً أعمق من مضمون النقاش في حدِّ ذاته، تتعلّق بمدى حدود حرية الرأي والتعبير، كما تؤصّل لها المواثيق والأعراف الكونية، إذ يطرح التساؤل الآتي: هل يمكن التسامح مع تعبير عن رأي يستهدف مقومات الوحدة الوطنية؟ صحيح أن العهد الدولي للحقوق المدنية ضَمِنَ حرية الرأي والتعبير في المادة الـ 19 منه، إلا أنّه وضع استثناءات تحدّ منها تتعلّق أساسًا باحترام حقوق الآخرين وحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة. ولهذا تضع الدول قوانين تدافع من خلالها عن وحدتها وضوابطها و"مقدّساتها" الوطنية، ومن أبرزها الوحدة الترابية للبلدان.
الفاعل المدني بين الخطاب السياسي والحقوقي
باستحضار هذه المنطلقات يمكن مناقشة تصريحات السيد عزيز غالي من زوايا مختلفة ومتنوعة. أولًا، يجب التشديد على أنّ الموقف الذي عبّر عنه بصفته رئيسًا للجمعية المغربية لحقوق الإنسان ليس بالجديد، بل هو موقف تتبناه الجمعية منذ مؤتمرها السادس في كلِّ بياناتها. الموقف يدعو إلى "حل ديمقراطي" لهذا النزاع، ويشدّد على إدانة الانتهاكات الحقوقية المرتبطة به مهما كان مصدرها. ربما عدم دراية صاحب الحوار بأدبيات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ولا حتى تفاصيل ملف الصحراء المغربية، فضلًا عن عدم التعبير سابقًا عن هذا الموقف علانية بهذا الشكل عبر شبكات التواصل الاجتماعي، خلق منه "حدثًا".
الإشكالية الثانية التي تطرحها تصريحات المعنيّ بالأمر هي حدود نقط التماس بين الخطابين الحقوقي والسياسي. فنحن، في هذه الحالة، لا نتحدّث عن موقفٍ حقوقيٍّ بشكلٍ نهائيٍّ، لأنّ الموقف الحقوقي هو الذي نستخلصه من قراراتِ الأمم المتحدة وتقاريرها ذات الصلة، بل عن موقف سياسي توافقي بين التيارات السياسية المُشكّلة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان. كيف ذلك؟
لماذا لم يأخذ السيد غالي والجمعية التطوّرات التي عرفها النزاع أمام الأمم المتحدة بعين الاعتبار والدينامية التي خلقتها دينامية مقترح الحكم الذاتي منذ سنة 2007 في بلورة موقف جديد؟
الجمعية تضم في عضويتها تيارات سياسية (الحزب الاشتراكي الموحد، فيدرالية اليسار الديمقراطي، النهج الديمقراطي)، كلها تتشبّث بمغربية الصحراء، إلا تيارًا سياسيًا واحدًا وهو النهج الديمقراطي ذو التوجه اليساري الراديكالي. هذا التيار، الذي بات يسيطر على الأجهزة التنظيمية للجمعية منذ مؤتمرها الخامس بانتخاب السيد عبد الحميد أمين سنة 1999، لا يخفي مساندته للطرح الانفصالي الذي يتماهى مع المفهوم الضيّق جدًا لتقرير المصير وربطه حصرًا بالاستفتاء، وجميع الرؤساء الذين جاؤوا بعد ذلك كلهم ينتمون إلى هذا الحزب السياسي المُعترف به قانونيًا في المغرب، ولديه جريدة ناطقة باسمه.
وفي إطار إيجاد صيغة توافقية بين النهج الديمقراطي الذي يحظى بالأغلبية في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وباقي التيارات السياسية اليسارية أيضًا، ابتُدِعَت هذه الصيغة غير الحقوقية حلًّا وسطًا بين مختلف الأطراف، وهو ما سارت عليه الجمعية. ما يؤكّد هذا الطرح تذكير غالي بكون الجمعية تتبنى مبدأ حق تقرير المصير (الذي لا يعني بالنسبة إليه وحزبه سوى الاستفتاء)، وذلك منذ المؤتمر الخامس للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهو المؤتمر الذي انتُخب فيه لأوّل مرّة عبد الحميد أمين رئيسًا بعدما حصل تياره السياسي على الأغلبية في المؤتمر، خلفًا لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي (الذي اندمج فيما بعد مع المؤتمر الوطني الاتحادي وتيار داخل الاشتراكي الموحد وأسسوا حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي). في سيناريو ذكّرنا بما حصل في المؤتمر الـ15 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب سنة 1972، عندما سيطر التيار الماركسي اللينيني نفسه (تنظيم إلى الأمام الذي يعدّ النهج الديمقراطي امتدادًا تنظيميًا وتاريخيًا لها) على رئاسة المنظمة.
نقاش إعلامي مع فاعل حقوقي
وسواء اعتبرنا تصريحات عزيز غالي تخصّه أو تعبيرًا عن موقف الجمعية، إلا أنها لا تعدو أن تكون موقفًا سياسيًا، للاعتبارات المُشار إليها سابقًا، وأيضًا لكونها تقدّم مقاربة متجزّئة لمختلف الإشكاليات الحقوقية (وليس السياسية المُحيطة بالملف). وبالنظر إلى أنّ التصريحات أثارت موجةَ غضبٍ في المغرب، ونظرًا لأنّ النقاش ظلّ في الحدود المسموح بها، يجوز لنا أن نناقش رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان من زاوية صحافية نمارس من خلالها لعبة طرح الأسئلة المزعجة.
- يخبرنا عزيز غالي أنّ الجمعية كانت تتبنى مبدأ تقرير المصير في مؤتمرها الخامس، ولكن عندما بدأت المفاوضات بين الجبهة الانفصالية والمملكة المغربية، أصبح موقف الجمعية هو المطالبة "بحل تفاوضي يجنب المنطقة الحرب" تماشيًا مع تطوّرات الملف أمام الأمم المتحدة. طيّب، لماذا لم يأخذ غالي والجمعية التطوّرات التي عرفها النزاع أمام الأمم المتحدة بعين الاعتبار والدينامية التي خلقها مقترح الحكم الذاتي منذ سنة 2007 في بلورة موقف جديد؟
- إذا افترضنا أنه يمكن مقاربة موضوع نزاع الصحراء انطلاقًا من زاويةٍ حقوقيّةٍ وليس ضمن مسار سياسي تشرف عليه الأمم المتحدة، وسلمنا بالتالي بكون مرجعية غالي في مقاربة هذا الموضوع هي مرجعية الأمم المتحدة، يجوز لنا طرح الأسئلة الآتية:
1. لماذا لا يأخذ رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بعين الاعتبار، وهي القرارات التي تهم الإشادة بمبادرة الحكم الذاتي وبدور المجلس الوطني لحقوق الإنسان في حماية حقوق الإنسان بالصحراء المغربية وبضرورة إحصاء ساكنة تندوف؟
2. ولماذا لا نجد أثرًا لرصد الانتهاكات الحقوقية في مخيّمات تندوف في تقارير الجمعية، بالحماسة نفسها التي نجدها عند متابعة قضايا حقوقية في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية عبر بيانات لفروعها، يجري تدبيجها بسرعة، وإن تضمّنت افتراءات؟
هل يمكن التسامح مع تعبير عن رأي يستهدف مقوّمات الوحدة الوطنية؟
3. لماذا يصرّ عزيز غالي على رفض كلّ دفوعات المُحاور من تساؤلاتٍ، وإن كانت في شكل عام، وليست بالعمق المطلوب، ذات الصلة بالدعم الذي تلقاه مبادرة الحكم الذاتي، بل وإلغائها من أجندة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان السياسية؟ فعوض مناقشة الاعتراف الفرنسي والأميركي بمغربيّة الصحراء وبمواقف الدول المساندة للحكم الذاتي، نجده يهرب إلى الأمام بقوله: ماذا عن موقف الصين وموقف روسيا؟ مع العلم أنّ بكين تصوّت على كلّ قرارات مجلس الأمن التي تشدّد على مركزية مبادرة الحكم الذاتي بكونها تتمتّع بالمصداقية، والأمر نفسه ينطبق على موسكو.
ألا نكون والحالة هذه أمام موقف جامد منذ سنة 2003 ولا يأخذ بعين الاعتبار تطوّرات النزاع أمام المنتظم الدولي والأمم المتحدة، فقط لأنّ التيار السياسي الذي يسيطر على الجمعية المغربية لحقوق الإنسان لديه موقف سياسي متشبّث بتمريره عبر قناة حقوقية، موقف يعود إلى زمن الحرب الباردة؟
أسئلة معلّقة
وقد مرّر عزيز غالي مغالطة تبيّن أنه وحزبه الذي يسيطر على الجمعية يقارب النزاع بمنطق يعود إلى زمن الحرب الباردة، عبر قوله إنّ "الأمم المتحدة أوضحت أنها لا تملك أية تفاصيل عن مبادرة الحكم الذاتي". وأنا أتساءل بدوري عن هذا التقرير للأمين العام للأمم المتحدة أو قرار لمجلس الأمن الذي يتضمّن هذا المُعطى. إن كان الأمر يتعلّق بتسريبات إعلامية غير رسمية، فلا يجوز لرئيس جمعية تقول إنّها أكبر جمعية في المغرب، الاعتماد عليها، لأنّ من سمات الفاعل الحقوقي الضبط الدقيق للمعطيات.
بالمنطق نفسه المُغالط للتاريخ والمُعطيات الحقيقية في الميدان، تحدّث عزيز غالي عن ملف "أكديم إيزيك"، بل أغامر بالقول إننا أمام موقف غير حقوقي وغير إنساني، فضلًا عن أنه يتماهى مع الموقف الانفصالي. فمنذ متى كان انتهاك الحق في الحياة لـ11 فردًا من القوات العمومية من طرف قوة انفصالية مسلّحة والتبوّل على الجثث شكلًا احتجاجيًا كما تضمنه المواثيق الدولية؟ ألا يقتضي منطق الحياد الذي يدّعي غالي تبنيه، أن يأخذ بعين الاعتبار مواقف أسر ضحايا مخيم "إكديم إزيك"؟ فهل سبق له استقبالهم في مقرّ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، على الأقل من أجل سماع وجهة نظرهم؟
في هذا الإطار، أستغرب أيضًا ربط عزيز غالي بين معتقلي احتجاجات الحسيمة ومعتقلي "إكديم إزيك"، مع العلم أنه لا وجود منطقيًا ولا حقوقيًا بينهم، اللهم إذا كان الأمر توريطًا لرفاق ناصر الزفزافي أكثر منه شيئًا آخر.