حرب الشيدر والمعارك الآمنة (2/2)

حرب الشيدر والمعارك الآمنة (2/2)

10 نوفمبر 2020
+ الخط -

كنا ننتظر من علمائنا "الوسطيين" أن يقولوا للناس إن الإسلام لا يعرف العقاب الجماعي للشعوب في صورة حرق سفارات أو تهديد بالقتل أو حتى دعاء جماعي يشمل العاطل والباطل، وأن هذا الدين العادل سن في دستوره الكريم قاعدة ذهبية رائعة بديعة تقول: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" وأن الإسلام أمرنا ألا نعلن العداء بكافة أشكاله على قوم أو أناس آخرين إلا في شروط محددة صكها القرآن الكريم في سورة الممتحنة عندما يقول الله عز وجل: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم، لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون".

هل طبقنا هذه الآيات الكريمة ونحن ندعي أننا ننصر دين الله؟ الحقيقة أننا قمنا بعكسها تماماً، لم نبدأ بإقامة حوار تصاعدي مع الدنمارك وحكومتها وصحافتها ومجتمعها المدني، حوار يبدأ بزيارات لوفود إعلامية وفكرية ودينية تشرح لهم من هو نبينا الكريم وما الذي قدمه هذا الرجل العظيم للإنسانية والبشرية، وتستخدم بعض ما كتبه المفكرون الغربيون عنه صلى الله عليه وسلم، وتوضح لهم أننا نحن الذين نسيء إلى هذا النبي العظيم الذي لو اتبعنا تعاليمه لكنا أكثر شعوب الأرض حضارة.

ربما فعل البعض ذلك لكن بجهود فردية متناثرة، ولأسابيع قليلة، بينما كان الأمر يتطلب منا مجهوداً شاقاً لكي نقنع هؤلاء الناس ونثبت لهم صحة موقفنا، على العكس أخذنا نتعالى ونتكبر بل وقالها الكثيرون منا "ملعون أبوهم مين دول اللي نشرح لهم.. دول مايفهموش إلا لغة القوة"، ناسين أن نبينا صلى الله عليه وسلم سن لنا سنة رفض العقاب الجماعي لمن آذوه وضربوه وأدموه وعذبوه وأخرجوه وغربوه حتى أن سيدنا جبريل رق لحاله فقال له: "لو شئت أطبق عليهم الأخشبين" ـ الجبلين المحيطين بمكة ـ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى: "كلا.. لعل الله يخرج من أصلابهم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، فأين نحن من هذه الروح السمحة الإنسانية التي تعاملت بمنتهى الحكمة مع الذين وصلوا إلى ما لم يصل إليه أي رسام دنماركي عندما خاض من خاض في عرض الرسول صلى الله عليه وسلم وآذوه في أهل بيته ولم يهدر دم أحد منهم، حتى أن ابن زعيم الخائضين عبد الله بن أبي بن سلول جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليعرض عليه أن يأتيه برأس أبيه، فرد عليه سيد الخلق قائلاً: "بل نحسن صحبته"، فأين نحن من ذلك الافتراض القرآني الجميل "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة". لاحظ أن هذا التعامل العنيف مع الدنمارك لم يتم تطبيقه مع الولايات المتحدة، حين أهان بعض الجنود الأمريكان القرآن الكريم وتطاولوا عليه، حيث تم قبول اعتذار الساسة الأمريكان من أول مرة، ولم تنطلق حملات لمقاطعة منتجات الأمريكان وبضائعهم أو تصعد ضدهم، لأسباب لا أظنها تخفى عليك.

أعرف أن الكثيرين سيقولون لي وما الذي يغضبك في تجمع الأمة الإسلامية ولو لمرة؟ الحقيقة أنا لست غاضباً لكنني حزين لأننا لا نتصدر إلا في المعارك الآمنة التي على خارج أرضنا، ونختارها على كيفنا أيضاً

أقول هذا الكلام وأنا لا أدعي لنفسي تخصصا في علوم الدين فما أنا إلا مواطن يحاول أن يكون مطلعاً على دينه قدر الإمكان، ويحرق قلبه أن لا يجد هذا الكلام يقال على ألسنة المشايخ الذين لا أدري هل ينطبق على بعضهم قول الإمام ابن حزم في تفسير قول الله عز وجل "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله" حين قال إن هذه الآية تنطبق على من يستخدم حتى مصحفا ليضل الناس عن سبيل الله، فأين هي سبيل الله ياقوم؟ أن نتتبع كل مستهزئ تافه جاهل في أنحاء الأرض فنقاطع منتجات بلاده ونحرق سفاراتها ونضيع الوقت في المهاترات معه؟ أم ننصر نبينا عليه الصلاة والسلام بأن نكون أحراراً أقوياء قوامين بالقسط لا نسير كالسوائم خلف من يقودنا بل نحاسبه ونراقبه ولا نخاف في الله لومة لائم.

أتمنى أن يتقي علماؤنا "الوسطيون" الله فلا يضللوا الناس عن خيبتهم الحقيقية ومعركتهم الأجدى والأبدى، وألا يكونوا متخصصين في المعارك الآمنة كالخائبين من سياسيينا الذين بلغوا من الشجاعة بحيث استطاعوا أن يحاكموا بوش وبلير وشارون، بينما لم يستطيعوا محاكمة مدير أمن القاهرة، ولو صدر قرار غداً بتعيين بوش أو بلير وزيرا للداخلية لاستبعدوهما فوراً من المحاكمة.

(3)

طيب، جميل جداً أن تجتمع هذه الأمة على شيء حتى لو كان مقاطعة الجبنة الدنماركية، لكن الذي ليس جميلاً أبداً أن يتخذ الكثيرون من قضية الرسوم الدنماركية الحقيرة والمسيئة لسيدنا النبي سبيلاً للمزايدة السياسية وغسل المواقف وتصفية الحسابات، وهو ما بلغ ذروته في بيان مؤتمر وزراء الداخلية العرب الذين لم أكن أعرف أن قلوبهم تأكلهم إلى هذا الحد على سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام وأنهم يرفضون الإساءة إليه، وهو أمر أتمنى على الله أن يضعه في صحائف حسناتهم الخاوية، لكن من الواجب أن نذكرهم بأن سحل الناس في الشوارع وتوصيل الكهرباء إلى مؤخراتهم واتهامهم بالباطل وهتك أعراضهم وخدش حيائهم وقتلهم من التعذيب وانتهاك آدميتهم، كل هذا يسيء إلى سيدنا النبي أكثر من الرسوم الدنماركية، وقد جاء في الحديث الشريف أن هدم الكعبة المشرفة حجراً حجراً أهون عند الله تعالى من سفك دم مسلم، لذلك أتمنى إذا كان مشايخنا الأفاضل وزراء الداخلية قلوبهم فعلا على سيدنا النبي وعلى الإسلام، أن يرونا تطبيقا عمليا لذلك في التعامل مع المواطن العادي الذي كفر بسبب بطشهم وجبروتهم.

ليس موقف وزراء الداخلية زاد الله تقاهم، هو الوحيد الذي يدعو للتساؤل والأسى، بل هو حال هذه الشعوب التي عندما تشاهدها في هذا الموقف تشعر بأنها بخير وأنها يمكن أن تغير واقعها وحياتها، لكنك إذا وسعت زاوية الرؤية قليلا لأدركت أنها ليست بخير وأنها تختار المعارك السهلة والآمنة دائماً، يعني لماذا لم نر هذه الحرقة على الإسلام عندما تم إهانة المصحف في غوانتنامو، لماذا سكتنا من أول اعتذار؟ هل لأن أميركا لا تنتج الجبنة أم لأننا جبناء نختار فقط المعارك التي يسمح لنا بها الحكام، أعتقد أنه لم يعد سراً أن الحملة ضد الرسوم قادتها مصر في توقيت صعود الإخوان على المشهد السياسي والسبب معروف طبعاً، فلا أظن أن حكومتنا خائفة على الإسلام إلى هذا الحد وإلا لكان ذلك قد بان على منقارها وعلى تصرفاتها التي لا تنتمي إلى أي ملة.

هنا أسأل ملايين المسلمين الذين أقدر حماسهم وغيرتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، هل تظنون أن حضرة النبي سيكون راضياً عنكم لأنكم ثرتم على رسام أحمق أساء إليه بينما سكتم وطنشتم وصهينتم على معاهدات الاستسلام والتطبيع وبيع الأرض وهتك الأعراض وانتهاك الآدمية والفساد وسوقكم كالأغنام إلى مصير لم تختاروه؟ هل تظنون أنكم بهذه الحملة تؤدون ماعليكم وتبرئون ذمتكم من الله؟ حاشا لله، إن نبي الله أكبر وأرفع من أن يسيء إليه رسم أو مقالة، نحن الذين نسيء إليه كل يوم بسكوتنا على الحق ومهادنتنا للظلم والفساد والباطل، ولذلك تنبئنا الأحاديث الصحاح أن رب العزة سيقول لنبيه في يوم القيامة: "إنك لا تدري ماذا أحدثو ا بعدك"، وبالتأكيد هذه المقولة المرعبة لا تخص الدنماركيين ولا غيرهم بقدر ما تخص هذه الأمة التي لم تأخذ من الدين إلا القشور ولا تملك من أمرها شيئا.

ثمة موقف مريب أيضاً يتجلى في صمت علماء الدين المخجل على ما يرونه من استغلال تجاري للأزمة من شركات الألبان والأجبان والمحمول، دون أن يقف أحد منهم بشجاعة ليقول لهم إن للإسلام منهجاً في التعامل مع من يسيئون إلى المقدسات الإسلامية، منهجاً ثابتاً في القرآن الكريم في قول الله تعالى: " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلاتقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره" ـ النساء 104 ـ  ويتكرر نفس المعنى في آية كريمة أخرى يقول فيها تعالى: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره" ـ الأنعام 68 ـ  وفي آية أخرى يقول تعالى: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم" ـ الأنعام 108 ـ  وأخيراً وليس آخراً قوله تعالى: "وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين" ـ الحجر 94 و95 ـ  وغيرها من الآيات الكريمة التي ترسم للمسلم منهجاً في التعالي على الإساءات المتعمدة للمقدسات لأنها لن تضر الله ولا نبيه شيئاً، وهو ما لم يجرؤ صوت إسلامي بارز على إعلانه وتفرغوا جميعا للمزايدة على بعضهم البعض، بدلاً من أن يقولوا لهذه الأمة المنكوبة أن معركتها الحقيقية ليست في الدنمارك بل مع نفسها ومع حكامها ومع مفسديها ومع ضعفها وعجزها وقلة حيلتها، وكم كنت أتمنى أن يقف العقلاء ليقولوا إن المشكلة ليست في الجبنة الدنماركية، بل في أننا نستوردها بملايين الدولارات، والمشكلة الأكبر في أن ثلاثة أرباع المسلمين لا يملكون أساساً ثمن شراء الجبنة "الإستامبولي" بانتظام، بينما الربع الباقي فقد هو الذي يمتلك ترف الاختيار بين الجبنة الفرنساوي أو الدنماركي.

أعرف أن الكثيرين سيقولون لي وما الذي يغضبك في تجمع الأمة الإسلامية ولو لمرة؟ الحقيقة أنا لست غاضباً لكنني حزين لأننا لا نتصدر إلا في المعارك الآمنة التي على خارج أرضنا، ونختارها على كيفنا أيضاً، يعني في أمريكا مثلا يهان جميع الأنبياء كل يوم بل ويهان رب العزة جل وعلا ويظهرونه في أفلام ومسرحيات ليسخروا منه، وبعض هذه الأفلام يعرض في قنوات فضائية مترجما إلى العربية، وبرغم ذلك لم نجرؤ على أن ننبس ببنت شفة، ولم نتمكن من مقاطعة السلع الأمريكية في عز نزول أمريكا فينا تقتيلا واحتلالاً وانتهاكاً وظلماً، لماذا إذن نتشطر على الدانمارك بل ونتغطرس فلا يكفينا اعتذارها، أرجو أن تقولوا الإجابة بصراحة، نفعل ذلك لأن الدنمارك ليست لها أنياب ولا مخالب، هتعمل فينا إيه يعني، هتضربنا بالجبنة الشيدر؟ ستبحث عن أسواق أخرى للتصدير وينتهي الأمر، ونفرح نحن بانتصارنا الفشنك وسنشعر أننا أنصفنا النبي عليه الصلاة والسلام بينما كل ما نفعله ضد تعاليمه الشريفة من أول سياسات حكامنا وحتى قذارة دورات مياه المساجد في أمة (النظافة من الإيمان).

كان يمكن أن أطبل وأهلل في الحرب الصوتية التي تشتعل في كل أنحاء العالم الإسلامي لأزايد مع المزايدين وأبين أنني خائف على نبي الإسلام، لكنني أتقرب بهذه السطور بين يدي الله عز وجل كفارة لذنوبي الكثيرة لعل نبيه الكريم يشفع لي يوم القيامة أنني قلت للناس إنه سيكون سعيداً بنا لو أنصفناه داخل بلادنا قبل أن ننصفه خارج بلادنا، وأننا بحاجة لحملة لكي نستعيد إنسانيتنا أولاً، ثم نكون بعدها قادرين على حمل رسالة الإسلام وتحقيق مقاصده الخمس: حفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال، فاسألوا أنفسكم بالذمة: كم مقصداً منها حققنا قبل أن نخوض موقعة الدنمارك؟

أغاية الدين أن تقاطعوا الجبنة الشيدر، يا أمة ضحكت من عجزها الأمم.

...

لعلك تتفق معي الآن في أن السطور التي قرأتها اليوم وبالأمس تنطبق بحذافيرها على ما يجري الآن في مواجهة فرنسا، وستنطبق في الغد على ما سيجري في مواجهة دولة أخرى غير الدنمارك وفرنسا، وهو ما يخبرك بالكثير عن أحوالنا المثيرة للأسى والقرف.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.