حدِّثْنا عن بوشكين لتعرف "من يحبّك مثلي"
أغسطس/ آب، شهر قادم من الجحيم. هكذا فكّرَ عمر ليقرّر مغادرة المدينة لبضعة أيام. أخذت عينه تزدحم بكثرة الأضواء وتضارب ألوان المايوهات على الشاطئ، حتى إنّ البحر بدا له صغيراً كمسبح متواضع، امتزجت مياهه ببول المصطافين.
منذ سنوات لاحظ هذا الضيق الذي يتسلّل إلى روحه كلما كان الناس قريبين منه. أثناء جولاته الصباحية، كانت ذاكرته تحتفظ بإحداثيات المقاهي الفارغة. أما في مقرّ سكنه، فينتظر إلى أن يغادر الجيران مغلقين باب العمارة خلفهم، لئلا يلتقي أحدهم ثم يلقي سلامًا اضطراريًا. هاتفه في وضع صامت أبدي. يجيب حسب هواه، دون أن يعتذر لمن لم يجبه.
عمله مدرّسًا كان بمثابة عذابٍ كافٍ. تخيّل أن يُلزَم أحد الانطوائيين بالتعامل مع مائة وستين شخصًا كلّ يوم. إنه لأمر يدعو للجنون. دأب عمر على إلقاء دروسه وهو ينظر إلى السبورة وسقف القاعة، حيث تظل يده اليمنى معلّقة بالمعصم الأيسر، تمسح عن ساعته لعلّ العقارب تلدغ بسرعةٍ الدقيقةَ الستّين، مُعلنةً عن موت الحصّة.
لعمر صديقة واحدة وصديقان اثنان، ومُعجبات كثيرات. لم يكن متكبّرًا ولا متصنّعًا لذاك الوقار، بل هادئًا قليل الكلام، وإن أحبّ أن يمزح، أبهج أصدقاءه بِحسّه الفكاهي الذكي. إنه حقًا شاب نبيه، نجيب، غزير المعلومات، مُلِمٌّ بالفلسفة وعلم النفس والأدب، محبّ للغابات والجبال.
ذات مساء، وصلت إلى أصدقائه الثلاثة رسالة منه على مجموعتهم في واتساب: هل يناسبكم أيها الأشرار أن أحكي لكم ونحن متحلّقون حول النار عن نهاية الشاعر بوشكين؟ وأنتِ أيتها العاطفية جدًا، أحضري كمية كافية من المناديل الورقية.
في الحين، كتبَت نورا: حسنًا أيها الوغد. كعادتك لا تفوتك فرصة السخرية مني. لكنك غالٍ.
أتوا جميعًا من مدن متفرقة، وقد حملوا حقائب وخيمات فردية صغيرة، ليلتقوا بمقهى شعبية في مدينة مراكش، حيث يقدّمون الشاي المغربي ورغيفًا لذيذًا. في لحظةٍ ما، قامت نورا من على طاولة الأكل لتجري اتصالًا. أفواه تلتهم وتضحك مطالبةً إياها أن تطيل حديثها على التلفون. عادت لتجد الصحن فارغًا، إلا أن عمر خبَّأَ من أجلها رغيفًا مدهونًا بالزبدة والعسل. لفّه بورق ناعم، بعناية فائقة، مثل ما يُلَفُّ الحرير للعروسِ.
كانت لتبدو الطريق إلى غابات الأرز طويلة جدًا لولا صديقهم الكوميدي. يضحكون ويضربون على أفخاذهم، ثم يمسحون دموعًا حلوة يرحّب بنزولها الجميع. وما إن يتمالكوا أنفسهم حتى يورّطهم بجرعةٍ زائدة تتعالى تحت مفعولها الضحكات من جديد. أتذكرون آخر مرّة آلمتكم بطونكم إثر نوبة ضحك؟ لقد مرّت أزمنة وعصور دون أن أحظى بلحظةٍ كهذه.
أتذكرون آخر مرّة آلمتكم بطونكم إثر نوبة ضحك؟ لقد مرّت أزمنة وعصور دون أن أحظى بلحظةٍ كهذه.
المطر الصيفي قصير العمر وحده استطاع أن يعيدهم إلى سكونهم. ركنوا السيارة وترجلوا لتتحسّس أقدامهم التربة الندية، ولتنتعش خياشيمهم بالعطر الأوّل الذي سرعان ما يختفي. سرعان ما يبتلعه عطش الأرض. سرعان ما يهدهد القلوب الجريحة. عطر يتقاسمه بعدلٍ وتعفّفٍ ذوو الحقوق، دون تدخل مطرقة قاضٍ، ولا محامٍ ولا مدعٍ عام.
نصبوا الخيام على سفوح الأطلس المتوسّط، ثم جمعوا حطبًا استعدادًا لأوّل ليلة تحت السماء. أشعلوا النار. التفوا حولها كما تفعل الفراشات عند اشتعال المصابيح. أخذ عمر كتابًا بين يديه، ساندًا ظهره على جذع شجرة مقطوعة.
قال صاحبه: حدّثْنا عن بوشكين يا أخا الروس.
أغلق عمر دفّتي الكتاب متأملًا اللهيب الذي أخذ يتأجّج شيئًا فشيئًا، ثم قرأ عليهم مقطعًا من قصيدة لألكسندر بوشكين:
ألا ابتعدي عن طريقي
يا ربة الأوتار الخافتة
أين أنت أيتها العاصفة الرجولية
يا مغنية الحرية الفخورة
اقتربي ومزقي إكليلي
وحطمي قيثارتي الناعمة… .
نورا تلقي نظرها بين الفينة والأخرى على كيس الحطب. تزيد حطبًا على حطب. تأكل حبّات العنب وترمي البذور في صمتٍ مطبق. تتفرّس في تقاسيم عمر وقد زادته النار ألقًا ووهجًا، بينما الصديقان الآخران يصفقان ويصرخان ببلاهةٍ وبلادة: أعِد! أعِد! أعِد!
بهدوئه المعهود طلب منهم أن يصمتوا في حضرة شعر بوشكين. هذا الروسي ليس كباقي الشعراء، إنه أميرهم. ثم إنه مات ميتة يحزن لها أنصار الحب في كلّ البقاع. مات متأثرًا بجراحه إثر نزال مع أحد الضباط الفرنسيين.
قالت نورا:
- وما خلفية هذا النزال؟
-الضابط الفرنسي حاول إغواء زوجته ناتاليا. بوشكين ليس كباقي الشعراء يا نورا.
- ولا أنتَ مثل باقي الأصدقاء يا عمر…، قالت في سرّها.
ليلهم كان غزيرًا بنقيق الضفادع وصوت مياه الوادي، وقد حلّ الصباح ناعمًا ناغمًا. أنساهم ذكرى الصباحات العنيفة، حيث يجري الكلُّ في كلِّ الاتجاهات، حيث الساعات أشباح تلتصق بالبشر. إنه وهْم النجاح. السمّ الذي يسري في أوصال الإنسان الجديد. لا أحد يأبه للشجر كيف تعانقت أفنانُه. لا أحد يعير اهتمامًا لأوراق القيقب المفصّصة.
عمر وحده علّم نورا أن تتبعها لتحسب فصوصها الخمسة ثم تلقيها لتمشي عليها وتسمع الخشخشة. أما الآن، فما من خشخشةٍ حدثت حين خرج عمر من خيمته ليشرب هواء الصباح. كان يمشي حافيًا على التراب. لم يجد نعله عند مدخل الخيمة. ظنّ الأمر مفتعلًا من طرف صديقيه، فقد ألِف منهما مثل هذا المزاح الثقيل. اتجه نحو الوادي ليغتسل، فوجد نورا على ضفته تجلي الصحون.
متفاجئًا قال:
- باكرًا تستيقظين أينما حللتِ! أخبريني، هل لكِ فكرة عن المكان حيث أخفى ذانك المخبولان نعلي؟
بمجرد أن سألها لاحظ على قدمها نعلًا واحدًا.
- آسفة يا عمر، لقد حمل الوادي النعل الآخر ولم أستطع اللحاق به.
غطّت وجهها بصحنٍ كبير أبيض خجلًا وأسفًا. سحبه منها عمر. وضعه جانبًا. خلع قميصه. أودعها إياه، ثم غطس تحت الماء. تَتَبّعَتْه بدهشة. بدت لها تفاصيل جسمه الممشوق القوي. رفع رأسه ليلتقط من أنفاسها نفسًا، فَرَمَقَ تفاصيل روحها العاشقة. ابتسما معًا. عاد ليغطس، وعادت لتجلي الصحون، ثم قالت ما قاله ألكسندر بوشكين: وكم أصلّي لله ليمنحك من يُحبّك مِثلي.