جيجيك والحروب المعاصرة
سلافوي جيجيك، الفيلسوف السلوفيني الذي غالباً ما تُعرف عباراته الشهيرة أكثر من أطروحاته الفلسفية، يجد نفسه مرة أخرى في قلب الجدل العالمي، وهذه المرة حول الحروب والنزاعات الكبرى التي تهزّ العالم، من أوكرانيا إلى غزّة. جيجيك، الذي لطالما كان صوته صارخاً ضد الرأسمالية وتناقضاتها، يُقدّم في كتابه الأخير
"?Too Late to Awaken: What Lies Ahead When There is No Future" رؤية معقدة للعالم الذي يبدو على حافة الانهيار. ومع ذلك، فإن هذه الرؤية، رغم إثارتها واستفزازها، تبدو أحياناً متخبطة وغير واضحة.
في كتابه، يشير إلى أن المستقبل الذي كنّا نتوقعه في مسار الأحداث الطبيعي قد انتهى، فنحن لا نقف على أعتاب الكارثة؛ لقد دخلناها بالفعل، ويرى جيجيك أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل، وإنْ كانت تُخاض على نحوٍ غير مباشر عبر وكلاء وأزمات إقليمية، ويطرح خيارين مأساويين؛ فإما أن تؤدي الحرب إلى ثورة، أو أن تحدث الثورة قبل أن تقع الحرب الكاملة، لكنّه في الوقت نفسه يبدو متردداً في التطرق إلى العوامل الاقتصادية التي تؤطر هذه النزاعات بوضوح.
بالنسبة لأوكرانيا، يأخذ جيجيك موقفاً حازماً ضد العدوان الروسي، معتبراً أن مقاومة أوكرانيا، رغم الصعوبات، هي استفزاز ضروري ضدّ الإمبريالية الروسية، كما يؤكد أن على الأوكرانيين أن يرفضوا أي حلول وسطية أو تنازلات قد تتيح لفلاديمير بوتين حفظ ماء وجهه، لأنه يرى أن هذا لن يؤدي إلّا إلى سلام وهمي. في الوقت نفسه، يتجاهل جيجيك إلى حدٍ ما الفساد المتأصل في الدولة الأوكرانية، الذي يتناقض مع الصورة المثالية التي يقدمها عن صراعها. هذا التناقض يثير تساؤلات حول مدى "نقاء" هذه المقاومة في مواجهة المصالح الغربية التي استثمرت في الحرب لتحقيق أهدافها الجيوسياسية.
أما في السياق الفلسطيني، فقد كانت مواقف جيجيك قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكثر وضوحاً في نقده للاحتلال الإسرائيلي، إذ قارن بين الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والطموحات الإمبريالية لروسيا في أوكرانيا، مشيراً إلى أن المشروعَين يهدفان إلى محو حقوق الشعوب واستبدالها بمنطق القوة. ومع ذلك، تغيرت لهجته بعد السابع من أكتوبر، إذ أدان هجوم حماس بشدة وأكد على حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ووصف حماس بأنها ليست حركة تحرُّر تقدمية، بل إنّها جزء من عملة واحدة مع القوى المتطرّفة في إسرائيل، كما دعا إلى تدمير حماس، وهو موقف أثار استياء الكثيرين من اليساريين الذين اعتبروه تنازلاً لإسرائيل وتجاهلاً للطبيعة الكارثية لعملها العسكري في غزة.
الجدل حول مواقف جيجيك ينبع من تعقيد أطروحاته وتناقضها الظاهري، فهو ينتقد ازدواجية المعايير في الغرب، إذ تُعتبر مقاومة أوكرانيا "بطولية"، بينما يجري تجاهل النضال الفلسطيني أو تشويهه. لكنّه في الوقت ذاته يتجنب الخوض في تحليل عميق للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تغذي هذه الحروب، فعلى سبيل المثال، لم يتطرق على نحوٍ كافٍ إلى تأثير التحوّلات الاقتصادية العالمية، التي يصفها بـ"الإقطاعية الجديدة"، إذ تهيمن الشركات الكبرى على الفضاء العام وتدمّر السياسةَ بمعناها الحقيقي.
ربما يكون أبرز ما يمكن استخلاصه من مواقف جيجيك هو إشارته إلى أن القوى الكبرى في العالم تفضل استمرار النزاعات الإقليمية بوصفها وسيلةً لتجنّب تحولات ثورية أكبر. في هذا السياق، تصبح الحروب في أوكرانيا وغزة مجرد تناقضات ثانوية في ظل تناقض رئيسي أكبر يتمثل في إعادة تشكيل النظام العالمي لصالح القوى الاقتصادية الكبرى.
ومع ذلك، فإن جيجيك، في محاولته التوفيق بين أطروحاته المختلفة، يجد نفسه أحياناً في مأزق فكري، فدعوته إلى "شيوعية الحرب" تتطلب تدابير اقتصادية وسياسية طارئة تنتهك القواعد الديمقراطية، وتبدو اقتراحاً محفوفاً بالمخاطر. تاريخياً، لم تؤدِّ مثل هذه التدابير إلّا إلى مزيد القمع والمعاناة للطبقات الفقيرة، وهو ما يتناقض مع رؤيته لمستقبل أكثر عدالة.
في نهاية المطاف، يقدم جيجيك منظوراً غنياً لكنه معقد ومربك، فمواقفه تثير التفكير لكنّها تترك الكثير من الأسئلة دون إجابة: هل يمكن أن تكون الحرب وسيلة لتحقيق الثورة، أم أنها ستظل أداة بيد القوى الإمبريالية لتكريس سلطتها؟ هل يمكن للعالم أن يتجاوز تناقضاته الداخلية ليصل إلى مستقبل أكثر إنسانية؟ جيجيك، كعادته، يطرح الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات، تاركاً القارئ في مواجهة هذا الواقع المضطرب.